سياسة

الجزيرة أبا … قلعة الصمود النضالي والتهميش التاريخي المتجزر ..!

الجاسر نيوز – تقرير

ظلت منطقة الجزيرة ابا، بولاية النيل الأبيض وقراها المجاورة الواقعة علي الضفة الشرقية الموازية للنيل شرق الجاسر، منذ عقود، تواجه تهميش تاريخي متجزر، من قبل كل الحكومات العسكرية “الاستبدادية” التي تعاقبت علي السودان عقب خروج المستعمر الانجليزي، اذ لم يجد انسان المنطقة دون أدني اهتمام بتقديم الخدمات الأساسية، لاعتبارات كثيرة يعد من بين ابرزها “الجغرافية” والإثنية.

ويبدو أن البعد التاريخي للجزيرة ابا، المرتبط ب”العقيدة” والنضال والمقاومة ضد المستعمر بالاضافة الي البعد الطائفي والسياسي مما جعل نظرة الانظمة الشمولية تجاه “إنسانها” بالعدو والخصم “اللدود” في كل “الحقب التاريخية”. فمنذ “عهد “الديمقراطية” كل المشاريع التي خُطط لها من أجل (كهربة المنطقة” – إنشاء المعهد الفني – الخطة الإيطالية للتنمية الريفية) مرور بالخطط التي تم وضعها في عهد حكومة “الانقاذ” والي اَخر خطة في عهد ثورة ديسمبر المجيدة، بعد أن قام عدد أربعة وزراء من ابناء المنطقة ابان توليهم حقائب وزارية في عهد حكومة د.حمدوك، هذه الخُطط كلها أُجهضت.

وشهدت “المنطقة” عبر مراحل تاريخها تجاهلاً غير مسبوق، وفي سبعينات القرن الماضي، ابان حكومة الرئيس السابق “جعفر نميري” حيث تعرضت تلك البقعة الي إستهداف مباشر، وواحدة من أفظع مجازر التاريخ السوداني، عبر “القصف الجوي بالطيران”، وبالرغم مما حدث لم تجعل تلك الضربة من انصار المنطقة ان يكونو خانعين من اجل تدميرهم، بل ظلو صامدين، وفي ثبات علي المبدأ وحتي ما بعد ذهاب نظام نميري.

بيد : أن المشاريع الزراعية بالجزيرة، واجهت في عهد حكومة “الانقاذ” تجاهل وإقصاء “متعمد” حال دون إستقرار الزراعة، ومنذ تولي نظام الثلاثون من يونيو المباد لمقاليد الحكم بالبلاد نهاية ثمانينيات القرن الماضي إذ لم يبد اهتمامه بالزراعة وصار التدهور يلاحق المشاريع الزراعية داخل الجزيرة ابا، الي جانب المناطق الواقعة في الحزام الحدودي الموازي للنيل شرق الجاسر فهنالك جملة من المشاريع الزراعية انهارت بسبب التجاهل من قبل الحكومات المتعاقبة ولكن في عهد نظام “البشير” زاد الإهمال الذي تعمد النظام المباد من خلاله إلحاق الدمار بتلك المشاريع.

وفشلت كل الجهود في اعادة اصلاح ما افسدته الانظمة العسكرية في المنطقة” وحتي اخر خطة قامت بوضعها حكومة الانقاذ انذاك والرامية الي دمج ﻣﺸﺎﺭﻳﻊ ﺍﻹﻋﺎﺷﺔ ﺑﺎلمنطقة، والتي تستهدف عددا من المناطق التي ترقد علي الضفة الموازية للنيل شرق مدينة الجزيرة ابا، امتدادا من مدخل الجسر مرورا بعدد من القري وصولا الي منطقة ابو هندي، بهدف استدامة الري. وكانت الجهات المسؤلة قد شرعت في تنفيذ المجمع عام 2004م إلا ان سير العمل فيه قد توقف تماماً

الشاهد : لم تقف الأنظمة العسكرية “الاستبدادية” المتعاقبة، من ممارسة “التهميش” وكافة اشكال التمييز والقهر، ضد أهالي الجزيرة بل تعدي الامر الي درجة من الإهمال “المتعمد” الذي طال البني التحتية، وخاصة بعد قيام الجهات المسؤولة بسحب الآليات وفرق المهندسين المشرفين على الجسور والتروس الحامية للمنطقة منذ عقود، مما أدى لضعف الجسور وانهيارها، الامر الذي جعل الجزيرة أبا وما حولها من قرى وجزر صغيرة تتعرض الي غرق شبه كامل، جراء فيضان مياه النيل الأبيض الذي ضرب المنطقة العام الماضي، مما خلف دمارًا كبيرًا في المنازل والأراضي المزروعة، في وقت تشهد فيه المنطقة أوضاعًا بيئية وصحية متردية.

وكان من شأن ثورة ديسمبر المجيدة التي اطاحت بنظام الإنقاذ وقامت بتعيين عدد (4) وزراء من ابناء الجزيرة هو انصافاً لهم، وما أن تلي ذلك وضع خطة من أجل تأهيل “المنطقة” – حيث قال وزير الشؤون الدينية والاوقاف السابق مولانا نصر الدين مفرح، في تصريح صحفي ل”الجاسر نيوز”، كانت هنالك خطة طموحة قامو بوضعها في فترة الحكومة الانتقالية، برفقة ثلاثة وزراء آخرون وهم من ابناء الجزيرة ايصاً، مؤكداً انما تم من تعيين كان إنصاف “رباني” وليس ترتيب من شخص أن يكون أربعة وزراء من ابا، وكشف عن الخطة التي تم اعدادها كانت لتأهيل محطتي المياه والكهرباء، وتأهيل معهد ابا الفني بجانب تأسيس مدينة الشباب للاعمال اليدوية بالمنطقة، ولكن إنقلاب 15 أبريل 2023م. الذي قام به العسكر قد قطع الطريق علي المشاريع التنموية امام المنطقة.

واشار “مولانا مفرح” الي ان الجزيرة ابا هي المدينة التي يحتضنها النيل وتحتضن السودان بتاريخها النضالي والإرث التضحياتي عبر فترتين تاريخيتين عظيمتين مع الإمام المهدي في 1881م حينما استهل الامام المهدي ثورته بها فانتصرت الإرادة الوطنية وبدأت منها حركة التحرير من الاتراك، وفي عهد الامام عبد الرحمن المؤسس الثاني لأبا في تاريخها الحديث 1908م حينما بدأ منها تحرير السودان الثاني في 1955م ومن داخل البرلمان والذي فاز فيه شعار السودان للسودانيين الذي رفعه الأنصار فكان استغلال السودان .

وكشف “مفرح” ان المنطقة قد ساهمت بمبلغ كبير في مال الفداء الذي دُفع للانجليزي حينما غادروا السودان عوضاً عن بعض مؤسساتهم التي تركوها وزاد انها ساهمت في اقتصاد السودان بالقمح والقطن والكُتل الخشبية والفواكه كيف لا وهي من زرعت القمح قبل مشروع الجزيرة باربعة سنوات.

ولكن “مفرح” عاد بالقول مع هذا الوميض المشرق في تاريخها الا أنها أصبحت كالمنسية أو المهجورة قسراً، مشيرا الي ان المنطقة تتمتع بقوة إجتماعية وسياسية ووطنية صلبة وفق ما تربت عليه في عدم الخضوع لأي استعمار أو دكتاتور فقد حاربها كل العسكر من عبود ونميري والبشير بل وقد ضربت في 1970م بالطيران من أجل تدميرها وإنهاء سلطانها الروحي ، وهكذا كانت تلك الأسباب التي أدت الي ركنها بل ركلها ، وعدم تنميتها بما يتوافق مع إرثها النضالي.

ويشير القيادي بحزب الامة القومي عروة الصادق، الي أن الجزيرة أبا ليست مجرد بقعة جغرافية تحفها مياه النيل الأبيض، بل هي وجدان وطني، ورسالة روحية، وموقع متقدم في سجل النضال السوداني. ومع ذلك، فإنها عانت من تهميش تاريخي ممنهج لم يكن صدفة ولا ناتجًا عن قلة أهمية، بل كان تهميشًا سياسيًا مقصودًا، هدفه ضرب رمز وطني حي لا يخضع للسلطة ولا يساوم على المبدأ.

وتابع : ان هذا التهميش بدأ منذ عهد الاستعمار البريطاني الذي نظر للجزيرة أبا كمصدر قلق دائم بسبب جذورها المهدوية وتأثيرها الجماهيري، فتم إخضاعها لرقابة مشددة، ومنع نموها الطبيعي، وتخوفوا حتى من ازدياد عدد سكانها، فكانت تحت المجهر الإداري خوفًا من أن تتحول إلى بؤرة مقاومة كما كانت في عهد الإمام المهدي.

واستطرد : “القيادي بالامة” حينما انتقلت البلاد إلى الحكم الوطني، ظن الناس أن عهد التهميش قد ولّى، لكن ما حدث كان استهدافًا أكثر قسوة، حيث واجهت الجزيرة أبا واحدة من أفظع مجازر التاريخ السوداني في عام 1970م عندما هاجمتها ثلاث جيوش من الدولة المايوية بالسلاح الثقيل ضد مواطنين عُزّل، في محاولة لاجتثاث رمزية المكان وإخماد صوت الحرية فيه، لأنه كان منطلقًا لموقف واضح ضد الاستبداد ومتمسكًا بثلاث لاءات : لا للتفريط في الإسلام، لا للتبعية الأجنبية، ولا للديكتاتورية.

وأضاف : في عهد نظام الإنقاذ، تم ارتكاب خطأ قانوني وسياسي كبير حين تم تأميم الجزيرة أبا عام 1991م، وتحويل أراضيها المسجلة باسم الإمام عبد الرحمن إلى أملاك حكومية، مشيراً الي ما تم كان تجاوز فاضح لتاريخ موثق تنازل فيه الورثة عن الأرض لأهل الجزيرة أبا، اعترافًا بمشاركتهم في إعمارها، وتم الاتفاق أن تملك لهم لا أن تباع لأصحاب الأموال، وقال ما حدث لاحقًا من بيع ممنهج لتلك الأراضي بحجة تمويل الإدارات المحلية، إنما هو طمس مقصود للهوية السكانية، وسعي محموم لتحويل الجزيرة أبا، من مجتمع رسالي إلى مدينة عادية بلا روح.

وأكد القيادي بحزب الأمة القومي عروة الصادق، ان التهميش في الجزيرة أبا، لم يكن تنمويًا فقط، بل شمل محاولات متعمدة لتشويه رسالية المكان، فكل مشاريع البعث الحضاري التي خُطط لها في عهد الديمقراطية، من كهربة الجزيرة أبا، إلى إنشاء المعهد الفني، إلى الخطة الإيطالية للتنمية الريفية، كلها أُجهضت عمداً، لأن وجود الجزيرة أبا كنموذج حضاري مستقل يشكل تحديًا لسلطة النظام القائم، ويهدد رمزية الدولة المركزية البيروقراطية التي لا تقبل الشراكة في المرجعية أو القيادة المعنوية.

رغم كل ذلك، صمدت الجزيرة أبا، لأنها قائمة على إرث من الإيمان والعمل الجماعي والصدق في الموقف، فالتهميش لم يكسر شوكتها بل صقل تجربتها، وجعلها أكثر تمسكًا بمعانيها التاريخية، وأقوى إرادة في الدفاع عن حقها. فقد شكلت الجزيرة أبا صورة قريبة من المدينة الفاضلة، حيث تقوى الجماعة، وتماسك المجتمع، وتنوعه في وحدة، وإنتاجه في خدمة الصالح العام.

ويبدو أن صمود الجزيرة النضالي والتهميش المتجزر الذي ظلت تعانيه في كل الحقب التاريخية، لأن قيمها أقوى من محاولات محوها، ولأن أبنائها أدركوا أن الدفاع عن الأرض هو دفاع عن المعنى، وأن الرسالة لا تموت ما دام هناك من يؤمن بها. الجزيرة أبا اليوم ليست فقط شاهدة على التاريخ، بل مؤهلة لتقود المستقبل من جديد، من خلال مشروع تنموي تعاوني، ومبادرة حضارية تعيد بعث رسالتها، وتقدم نموذجًا سودانيًا متفردًا في التعايش، والنهوض، والعدالة الاجتماعية.

ولذلك فإن الحديث عن أبا لا يجب أن يكون بكاءً على الماضي، بل إيمانًا بقدرتها على أن تكون منارة جديدة، وأن تعيد لنفسها وللسودان ما فقدته بسبب سياسات التهميش والإقصاء، وهي ماضية في طريقها، لأن الرسالات العظيمة لا تموت، بل تتجدد كلما ظن الناس أنها خمدت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى