الجميل الفاضل يكتب … سؤال “الخرطوم”، هو سؤال المرحلة؟!

النهايات المفتوحة للأسئلة، هي في العادة نهايات مزعجة للغاية، تفلق أدمغتنا الصغيرة، بأثر أكبر من ضربة “ساطور” أرعن هشم رأس فتي وقع في الأسر، فأحاله الي فتافيت صغيرة.
لكن علي أية حال، تري هل بتنا نعيش مقدمات حقبة “تفرتق” هذه المدينة التوسعية “الخرطوم”، علي نحو ما قال الشيخ المؤسطر “فرح ود تكتوك”.. “طوبة، طوبة”؟.
أم لا زال في كأسها باقي؟.
فقد بات في حكم المؤكد أن الخرطوم لا تملك اليوم سوي أن تناجي بعضا من أشباحها الهائمة، وقليلا من ظلالها التائهة، قبل أن تعود للعق جراحها في صمت كظيم تحت هذا الرماد.
وبرغم كل هذا، أقول: أن الخرطوم ليست مجرد عاصمة رسمية لدولة مأزومة، وجدت طريقها الآن سالكا لأن تتمزق، أو أن تتحلل، ثم تذوب.
إذ يقول تاريخها عبر القرون أنها مدينة لكل الفصول، تمرض ولا تموت.
فقد أورد عنها كتاب “ذكر السودان في الصحف الاولي”، أن أول كهنة بنوا معبدا لهم عندها بمقرن البحرين، هم من أطلقوا عليها اسم “كا.. رع.. آتوم”، ويشرح الكتاب أن “كا” تعني “الروح”، و”رع” تعني “الشمس الالهية”، و” آتوم” هو الإله الخالف.
لتصبح ترجمة إسم “الخرطوم” وفق المصدر، “روح شمس الخالق الإلهية”.
ويضيف الكتاب أن اللفظ تدحرج علي أفواه الناس الذين عملوا فيه قضما وتحويرا عبر الأزمنة، فصار “كارتوما” و”كرتوما” الي ان وصل الينا في صيغته الجارية علي السنتنا “الخرطوم”.
إذ للخرطوم في “المثيولوجيا” سيرة مستترة عند “ابن عربي”، و”صاحب أو رجل” لدي “القرطبي”، يقبع في تقديره منتظرا، وراء كل هذه الغيوم الكثيفة.
فقد قال سبحان القائل: “سنسمه علي الخرطوم”، لكن أي خرطوم هي موضع هذه الإسامة العظيمة.. لست علي شك، ولا علي يقين، من أن هذه الخرطوم العاصمة المهددة بالتفرتق “التكتوكي” ذاتها، هي مكان الإسامة الكبري، لا مكان هذه الإقامة الضامرة، بعد “حرقة” أو “غرقة” أخري منتظرة، كما قال الشيخ فرح.
ويبقي سؤال الراهن: من قد إستعاد من في الحقيقة؟.
الخرطوم، أم العائدون اليها الذين ربما هم أنفسهم مستعادون أيضا، لحكمة لا يعلمونها، ولا نعلمها.
تري من الذي عاد الي من؟.
أو من هو الذي إستعاد من؟.
إنها اسئلة، لكن عموما.. لا ضير من نوع هذا السؤال في كل وقت وآن، فالسؤال -أي سؤال-، هو مفتاح بالضرورة لمغاليق الأذهان.
ولعل المهم في طرح مثل هذه الأسئلة، كما يقول الفيلسوف “كارل ياسبرز”: ليس هو الجواب، بل هو السؤال.
فالفلسفة تعني دائما بإعادة طرح نفس السؤال لكن بطريقة أخرى، يمكن أن تناقش تطورا طرأ علي ذات مشكلها القديم.
إذ ربما يجب أحيانا كما قال الشاعر محمود درويش، الذي يجب، بخاصة عندما يكون توازن الأشياء قلقا أو مختلا في حال كحال الخرطوم الراهن، لابد من فعل كهذا الذي أضطر له الشاعر وهو يفرك عينيه، قبل أن يرج ذهنه، ويدلك أعصابه، بهذه الطريقة الكلامية المدهشة، قائلا:
“أَنا التوازُنُ بين مَنْ جاءوا ومن ذهبوا
وأَنا التوازُنُ بين مَنْ سَلَبُوا وَمَنْ سُلِبوا
وأَنا التوازُنُ بين مَنْ صَمَدُوا وَمَنْ هربوا
وأَنا التوازُنُ بين ما يَجِبُ:
يجب الذهابُ إلى اليسارْ
يجبُ التوغُّلُ في اليمينْ
يجبُ التمترُس في الوسطْ
يجبُ الدفاعُ عن الغلطْ
يجبُ التشكُّك بالمسارْ
يجبُ الخروجُ من اليقينْ
يجبُ الذي يجبُ”.
ليظل هكذا سؤال المرحلة في النهاية هو كذلك: ما الذي يجب؟.
فهل يجب هنا أيضا الذي يجب، من دفاع عن الغلط، ومن تشكك بالمسار، ومن خروج من اليقين، كما قال درويش؟!.
أم يجب علي الخرطوم في هذه اللحظة الفارقة : أن تشهر لاءاتها المتمردة، وبطاقاتها الحمراء والصفراء والغبراء، بوجه كل من خان أمانتها، ومن سلبها أمانها، فأقلق نومها، وبدد شمل أهلها، ثم نزع عنها أثواب سترها، فعراها لتبدو سواءتها جهيرة للناس، في هذه الصورة المؤلمة الفاجعة؟!.