أمير يعقوب يكتب … قضية الكنابي ما بعد الحرب بين جراح الأمس ومعالجات المستقبل

تعتبر الكنابي بولاية الجزيرة ليست مجرد تجمعات سكنية هامشية على أطراف المشاريع الزراعية، بل هي مجتمعات حية ساهمت بعرقها وصبرها في بناء الاقتصاد السوداني، وظلت رغم التهميش الطويل متمسكة بجذورها، تناضل من أجل الاعتراف، وتحلم بالعدالة.
ولكن جاءت الحرب الأخيرة فزادت الجراح عمقًا، وحملت الكنابي من المآسي ما لا يُحتمل: نزوح، فقد، انتهاكات، وحرمان مضاعف.
في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري التفكير في الغد :
كيف نعيد بناء ما تهدم؟ كيف نُداوي الجراح؟ كيف نؤسس لمعالجات جذرية تضمن أن لا يُعاد إنتاج نفس الظلم؟
هذا المقال محاولة لطرح رؤية صادقة لمعالجات ما بعد الحرب، تُنصف أهل الكنابي وتفتح أمامهم أفقًا جديدًا للحياة والكرامة.
الأوضاع الحالية بعد الحرب:
مع اندلاع الحرب، لم تكن مجتمعات الكنابي بمنأى عن لهيبها، بل وجدت نفسها في مرمى النيران أكثر من غيرها. فقد واجهت الكنابي أشكالًا متعددة من الانتهاكات، من قتل وتشريد إلى تدمير البيوت، ونهب الممتلكات، وحرمان من أبسط مقومات الحياة.
الكثير من أهل الكنابي اضطروا للنزوح نحو المجهول، بعضهم إلى ولايات أخرى، وآخرون عبروا الحدود، حاملين معهم وجعًا مضاعفًا: وجع فقدان الأرض، ووجع فقدان الأمان.
وفي ظل غياب الدولة وتهشيم مؤسساتها، أصبحت مناطق الكنابي مكشوفة بلا حماية، ولا صوت يدافع عنهم، في ظل صمت محلي وإقليمي ودولي مريب.
النتائج كانت مدمرة:
انهيار التعليم والخدمات الصحية.
تفكك المجتمعات بسبب النزوح والاغتيالات.
تفشي الفقر والجوع، وفقدان مصادر الدخل.
أثر نفسي عميق، خاصة بين النساء والأطفال.
علاوة على ذلك، تعرضت مناطق الكنابي لعديد من الانتهاكات الخطيرة، تمثلت في القتل الجماعي، والتشريد، والنهب الممنهج للممتلكات، بالإضافة إلى الحرائق التي دمرت المنازل، ومرافق الخدمات الأساسية. وفي أسوأ الحالات، تعرضت النساء والفتيات لالاغتصاب والانتهاكات الجنسية من قبل بعض الأطراف المتحاربة، مما أسفر عن أضرار نفسية واجتماعية يصعب علاجها دون تدخل فوري.
هذه الجرائم يجب أن تكون موضوع محاكمة جادة، بحيث يُحاسب جميع المسؤولين عنها، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات. العدالة يجب أن تكون أولوية في المرحلة القادمة، لضمان أن الذين ارتكبوا هذه الانتهاكات لا يفلتون من العقاب. لا يمكن إعادة بناء المجتمع دون معالجة هذه الجرائم والاعتراف بها رسميًا.
التحديات الأساسية:
- غياب الاعتراف الرسمي بمناطق الكنابي:
هل يمكننا أن نعتبر مناطق الكنابي جزءًا من الكيان السياسي والإداري للسودان؟ لماذا لا يُدرج هذا الاعتراف ضمن سياسات الدولة الرسمية؟ هل من الممكن أن تبقى هذه المناطق مهمشة في خطط التنمية والإعمار؟ كيف يمكن لأهل الكنابي أن يشعروا بالانتماء والوطنية في ظل هذا التجاهل المستمر؟ هل سيكون من العدل أن تظل هذه المجتمعات بلا حقوق مدنية أو سياسية؟ وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان حصول الكنابي على الاعتراف الكامل في الدستور وفي المؤسسات الحكومية؟
- الانتهاكات وغياب العدالة:
الحرب التي خاضتها البلاد تركت آثارًا ثقيلة على المدنيين، والكنابي كانت واحدة من أكثر المناطق تأثرًا. العديد من أبنائها تعرضوا لانتهاكات خطيرة من قتل وتشريد، والآن، وبعد الحرب، لا يزالون يواجهون صعوبة في الحصول على العدالة والمحاسبة. القضاء على الانتهاكات من خلال محاكمات نزيهة وإجراءات قانونية ملزمة هو أحد أكبر التحديات التي تقف في طريق إعادة بناء الثقة في النظام القضائي.
- صعوبة العودة وإعادة الإعمار:
مع تدمير المنازل والمرافق العامة والبنية التحتية في مناطق الكنابي، يواجه النازحون صعوبة كبيرة في العودة إلى ديارهم. الأراضي الزراعية التي كانت مصدر رزقهم تضررت أو فقدت، وما تبقى منها غير قادر على توفير احتياجاتهم الأساسية. من دون دعم حكومي قوي ومساعدة دولية، ستستمر هذه المناطق في مواجهة تحديات إعادة الإعمار لفترة طويلة.
- الخوف من الإقصاء والاستغلال السياسي:
يُعد الخوف من الإقصاء والاستغلال السياسي من أبرز الهواجس التي تراود مجتمعات الكنابي، خاصة في ظل تاريخ طويل من التجاهل والمناورة السياسية. فقد شكّلت قضية الكنابي أداة تُستغل كلما اقتربت المواعيد الانتخابية أو التفاهمات السياسية، دون تقديم حلول حقيقية على الأرض.
في عهد النظام السابق، وتحديدًا خلال الانتخابات التي جرت في عهد البشير، استُخدمت أصوات سكان الكنابي في الحملات الانتخابية دون أن يُراعى وضعهم القانوني أو تُلبّى مطالبهم المشروعة. تمّ تجيير هذه الأصوات لصالح مرشحين وكيانات سياسية من دون تقديم أي التزام جاد بتحسين أوضاعهم.
وبعد الثورة، ورغم آمال التغيير، تكررت ذات المحاولات من خلال اتفاقية جوبا للسلام، حيث سعت بعض الحركات المسلحة والأحزاب السياسية إلى توظيف قضية الكنابي كورقة تفاوضية، دون تمثيل حقيقي لأهل الكنابي في طاولة الاتفاق، ودون تضمين مطالبهم الأساسية بوضوح في الاتفاقية.
إن ما يجعل هذه الظاهرة أكثر خطورة، هو الحجم الكبير لسكان الكنابي، إذ يُقدّر عدد الكنابي في ولاية الجزيرة وحدها بأكثر من 2000 كمبو، وهو رقم يجعل منهم كتلة سكانية كبيرة تُغري الأطراف السياسية والعسكرية باستغلالهم كخزان انتخابي، أو كأداة ضغط سياسي، دون أن ينالوا أي حقوق مقابل ذلك.
هذا التاريخ من الإقصاء والتوظيف السياسي خلق حالة من عدم الثقة في العملية السياسية برمتها، ويجعل من الضروري وضع آليات واضحة لضمان عدم تكرار هذه التجاوزات، ومنح مجتمعات الكنابي تمثيلًا حقيقيًا يُعبر عن تطلعاتهم، ويُجنّبهم الوقوع مجددًا في فخ الشعارات المؤقتة والوعود الزائفة.
الرؤية المستقبلية للمعالجة:
- العدالة الانتقالية وجبر الضرر:
أول خطوة نحو إعادة بناء الثقة وتحقيق العدالة هي جبر الضرر لجميع من تضرروا من الحرب والانتهاكات. يجب إنشاء آليات رسمية تقدم تعويضات مادية ومعنوية للضحايا، وتضمن محاكمة مرتكبي الانتهاكات بحق أهل الكنابي. العدالة الانتقالية ليست فقط إجراء قانونيًا، بل عملية اجتماعية وثقافية تهدف إلى شفاء الجراح وتعزيز السلم المجتمعي.
- الاعتراف الدستوري والإداري بالكنابي كمجتمعات قائمة:
من الضروري أن يتم الاعتراف بمناطق الكنابي على أنها جزء من الكيان السياسي والإداري للسودان. هذا الاعتراف يجب أن يكون في الدستور، وفي سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية. كما يجب أن تتم مراعاة حقوقهم في الحصول على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والإسكان، بالإضافة إلى المشاركة الفاعلة في صنع القرار على المستوى المحلي والوطني.
- تمكين اقتصادي وتنموي حقيقي:
إعادة بناء الكنابي يجب أن تشمل مشاريع تنموية حقيقية تهدف إلى تمكين أهلها اقتصاديًا. هذا يشمل دعم المشاريع الزراعية الصغيرة، تطوير البنية التحتية، وتوفير القروض الصغيرة لتحفيز رواد الأعمال المحليين. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون هناك برامج تدريب وتأهيل للشباب والفتيات في مجالات مختلفة، لتأهيلهم للمشاركة الفعالة في سوق العمل.
- دور المجتمع المدني في التوعية والمصالحة:
المجتمع المدني له دور كبير في التوعية بمخاطر الحرب وأثرها على المجتمعات، بالإضافة إلى دوره في تسهيل عمليات المصالحة بين المجموعات المختلفة. في هذه المرحلة، يجب أن تكون هناك مبادرات للتوعية بحقوق الإنسان، وتعليم كيفية التعامل مع الصدمات النفسية الناجمة عن الحرب، بالإضافة إلى تشجيع المبادرات التي تعزز من ثقافة السلم والاحترام المتبادل بين جميع الأطراف.
- تحييد الكنابي عن الصراعات السياسية والعسكرية:
لحماية أهل الكنابي من الصراعات المستمرة، يجب أن تكون هناك آليات لضمان تحييد هذه المناطق عن الصراعات العسكرية والسياسية. هذا يشمل فرض مناطق آمنة، ومنع استخدام هذه المناطق كمناطق عسكرية أو سياسيّة، وتوفير بيئة مستقرة وآمنة للعيش والعمل.
خاتمة:
رغم كل الألم والمعاناة التي مرّ بها أهل الكنابي خلال الحرب، تظل الأمل في المستقبل موجودًا، طالما أن هناك إرادة قوية لتحقيق التغيير. ما يحتاجه أهل الكنابي هو الاعتراف الكامل بقضيتهم، ومنحهم الفرصة لإعادة بناء حياتهم بعيدًا عن الصراع والاستغلال.
الكنابي ليست مجرد قضية سياسية أو اجتماعية، بل هي قضية إنسانية بالدرجة الأولى، حيث يتوجب على الجميع، من دول ومجتمع دولي وأحزاب سياسية، أن يعملوا معًا من أجل تحقيق السلام والعدالة لهذه المجتمعات المنكوبة.
إنَّ المعالجات المقترحة لا تتطلب فقط العمل من قِبل الحكومة أو المنظمات الدولية، بل أيضًا من جميع أبناء الكنابي أنفسهم الذين يمكنهم أن يكونوا جزءًا من الحل في إعادة البناء والعيش بكرامة.
الفرصة موجودة الآن، ونحن بحاجة إلى أن نعمل معًا لبناء مستقبل أفضل لأهل الكنابي، بعيدًا عن التهميش والاستغلال، على أساس من العدالة والمساواة.
الأمل قائم، ولكن التغيير يتطلب تضامنًا وعملًا جماعيًا يراعي مصالح الجميع، ويضمن حق كل فرد في العيش بسلام وأمان.
amirrooga8806@gmail.com
15/4/2025