عروة الصادق يكتب .. النظرية الشعورية السياسية – تأصيل لوعي جمهوري بديل في السودان الحلقة الخامسة – (5)

النظرية الشعورية السياسية - تأصيل لوعي جمهوري بديل في السودان 5
العدالة الرمزية والهوية المركبة
عروة الصادق
orwaalsadig@gmail.com
كيف تُقاس العدالة بالظهور لا بالحصص؟ وكيف تصبح الهشاشة قوة؟
مقدمة: المعركة التي لا تُرى
في السودان، تُخاض حربان في اللحظة نفسها:
حرب الدماء، حيث تُسحق الأجساد في العلن.
وحرب الرموز، حيث تُمحى الهويات في صمت المناهج.
تُظهر النظرية الشعورية أن العدالة لا تكتمل حين تقتصر على توزيع المال أو السلطة.
فما قيمة المنصب إن لم يظهر اسم قريتك في الخريطة؟
وما فائدة الصوت الانتخابي إن لم تُسمَع لهجتك في إذاعة “الوطن”؟
العدالة الرمزية تقول ببساطة:
“لكي أكون من الوطن، لا بد أن أُرى أولًا… أن أُذكَر قبل أن أُمنح.”
أولًا: العدالة الرمزية – اقتصاد الظهور
في الدولة التقليدية، تُوزّع الموارد.
أما في الجمهورية الشعورية، فتُوزّع المساحات الرمزية:
في التعليم:
أن يُدرَّس شعر “الهوسا” بجوار شعر “الجعليين”.
أن تُذكر معركة “قري” بنفس الحفاوة التي تُذكر بها “كرري”.
في الإعلام:
أن يُبث خبر زفافٍ في “الطويشة” كما يُبث خبر زفاف في الخرطوم.
في الطقوس الوطنية:
أن يُغنّى للنيل… ولجبل مرّة أيضًا.
لماذا؟
لأن الغياب الرمزي أخطر من التهميش السياسي:
الطفل الذي لا يرى اسم منطقته في الكتاب المدرسي، سيشعر بأنه زائد عن الخريطة.
الشاب الذي لا يسمع لهجته في التلفاز، سيظن أن صوته غير مصرح به.
“التمييز الرمزي أن تكون موجودًا… لكنك لا تُرى.”
ثانيًا: الهوية المركبة – قوة التناقض
السودان لم يُبنَ على نقاء بيولوجي، بل على اختلاط الندوب:
دماء “الزنوجة” اختلطت بأهازيج “الختمية”.
دموع “النوبة” تسرّبت في إنشاد “الأنصار”.
لكن النخب خشيت هذا الخليط، وكأن الهوية وثيقة عقارية يجب أن تُكتب بلغة واحدة وتُوقّع بحبر واحد.
ترد النظرية الشعورية:
الهوية المركبة ليست خللًا… بل خريطة البقاء الجماعي.
والتنوع ليس تحديًا… بل هو أصل القدرة على النجاة.
كيف؟
اللغة: لا نطلب من الطفل أن “يصقل لسانه”، بل نُعلمه أن لهجته امتداد لروحه.
الدين: لا نختزل الوطنية في الإسلام، بل نُعترف بأن الأنيمية والبوذية والزرادشتية جزء من وجدان التربة.
التاريخ: لا نحتفل بـ”المهدية” فقط، بل نخلّد مقاومة “الملكة أماني شيناسي” في الشرق.
“لا تطلب مني أن أكون واحدًا…
بل اعترف بأنني كثيرٌ في جسدٍ واحد.”
ثالثًا: كيف نُطبّق العدالة الرمزية؟
أ. إعادة كتابة المركز:
تحويل “الخرطوم” من عاصمة إدارية إلى ساحة تمثيل رمزي لكل الجهات.
جعل “النيل” نهرًا بين أنهار، لا الرمز الأوحد للسودانية.
ب. تأسيس “بنك الذاكرة”:
توثيق كل الروايات المحكية، حتى تلك التي تُخالف السرد الرسمي.
تحويل “الحكايات الممنوعة” إلى مواد تعليمية.
ج. إعادة تعريف التمثيل:
لا يكفي أن يكون النائب من “دارفور”، بل يجب أن يحمل جُرحها معه.
لا يكفينا وزير من “الجنوب”، بل نحتاج من ذاق الكسرة في المنفى.
رابعًا: لماذا تخشى النخبة الهوية المركبة؟
لأنها:
تُفكك أسطورة “النقاء العرقي”.
تُسقط قداسة “المركز” الإداري.
تُحوّل السلطة إلى مسؤولية مشتركة، لا امتياز محجوز لمن يتقنون لهجة البحر والنهر.
ختامًا: الوطن ليس قصيدة واحدة… بل ديوان يتنفس
العدالة الرمزية ليست ترفًا نخبويًا… بل شرط لبقاء الوطن في قلوب أبنائه:
من يرى نفسه في المرايا الوطنية، لا يحتاج إلى التمرّد.
ومن يسمع اسمه في النشيد، لا يطلب وطنًا بديلًا.
الهوية المركبة ليست عبئًا على السيادة… بل هي مَتن السيادة نفسها.
“نحن لسنا فسيفساء،
نحن نهر من الألوان…
يرفض أن يُختصر إلى لون واحد.”