مقالات

عروة الصادق يكتب .. النظرية الشعورية السياسية – تأصيل لوعي جمهوري بديل في السودان – الحلقة السادسة – (6)

النظرية الشعورية السياسية – تأصيل لوعي جمهوري بديل في السودان 6

اللغة كأداة تحكّم، وسيطرة، ومقاومة
كيف تتحوّل اللهجة إلى سلاح؟ وكيف يصبح اللفظ انتماءً؟
عروة الصادق
orwaalsadig@gmail.com

مقدمة: حرب الحروف الخفية
في السودان، حيث تُحارب الأجساد بالرصاص، تُحاصر الألسن بالمعجم.
اللغة لم تكن يومًا مجرد وسيلة تواصل، بل:
سيفٌ رمزي يُقطع به من لا يتقن “فصحى الخرطوم”.
جواز عبور إلى دوائر الوطنية المزوّرة.
مقصلة لغوية تُسقِط من لا يُشبه صوت المركز.
تقول النظرية الشعورية:
“من يملك الكلمة، يملك حق الوجود. ومن يُحذف من القاموس، يُحذف من الوطن.”

أولًا: اللغة المهيمنة – جريمة بلا دم


حولت النخب السودانية “العربية” إلى أداة سيطرة خفية :
في الإعلام : لا يُستضاف إلا من ينطق “الضاد” كأبناء العاصمة.
في القضاء : تُرفض أو تسفه شهادة من يخلط العربية بلسان أمه.
في التعليم : يُعاقب الطفل إذا نطق اسم قريته بلهجة منزله.
“اللغة المهيمنة أول معسكر اعتقال رمزي،
ندخله طوعًا، ونخرج منه وقد نسينا أسماءنا الحقيقية.”

ثانيًا: السيادة اللغوية البديلة – ثورة اللفظ


النظرية الشعورية لا ترفض العربية، بل ترفض احتكارها.
هي تقول :
من حق الهامش أن يكتب شعاراته بلغته.
من حق القرى أن تُدوّن تاريخها بلسانها الأصلي.
من حق الأغنية أن تُغنّى بالنوبية دون قلق من الترجمة.
أمثلة تطبيقية :
في الدستور: أن تُكتب المواد بعدة لغات وطنية: العربية، الفوراوية، النوبية، البجاوية.
في البرلمان: أن يُسمح للنائب بالتحدّث بلغته، مع توفير الترجمة الرسمية.
في الثقافة: أن يُصنّف الدوبيت والجراري والهسيس ضمن التراث القومي، لا الفولكلور الهامشي.
“لا تطلب مني أن أتخلى عن لهجتي لأثبت أنني سوداني،
فذلك كأن تطلب مني أن أنتمي لأمي… بشروط الجيران.”

ثالثًا: اشتقاق السيادة – إعادة اختراع المعجم


في الجمهورية الشعورية، اللغة تُخترَع مجددًا :
نُصك كلماتنا الخاصة التي تُعبّر عن واقعنا الشعوري، ككلمة واحدة تعني “الفرح المنكسر في جنازة شهيد”.
نسرق من اللغة المهيمنة مفرداتها ونعيد تعريفها، حتى لا يظل “الوطن” مرادفًا للخرطوم فقط.
نبتكر لغة هجينة من العربية والنوباوية والنوبية والبجاوية والزغاوية والفولانية، لا كلغة رسمية بل كلغة مقاومة.

رابعًا: اللغة كفعل سياسي – من التعبير إلى التحرير


كل فعل لغوي صادق هو انتفاضة ضد الصمت الرسمي :
الطفلة التي ترفض تصحيح لهجتها في الصف.
الشاعر الذي يكتب للكرمك بلسان الزنوجة.
الأم التي تغني لطفلها بلغة لا يفهمها المدرّس، لكنها تفهمه.
“حين يُمنع الإنسان من التحدث بلغته،
لا يُمنع من التعبير فقط،
بل يُمنع من أن يكون له ماضٍ يُذكر.”

خامسًا: كيف نُطبّق العدالة اللغوية؟


أ. إنشاء أكاديمية اللغات السودانية
توثيق اللهجات المحلية، خاصة تلك المهددة بالاندثار.
إدراج اللغة الأم ضمن الهوية الثقافية لا كعار بل كقيمة.
ب. إصدار “قاموس السودان الشعوري”
يجمع المفردات التي ولِدت من رحم الثورة، الحزن، والحلم.
ج. تحويل الشارع إلى منصة لغوية
أن تُعلّق اللافتات بالبجاوية في بورتسودان كما تُعلّق بالعربية في الخرطوم.
أن يُسمَح للهجات بأن تكتب أسماء شوارعها بنفس الثقة.

ختامًا: الوطن يتّسع لكل الحروف


اللغة ليست أداة، بل مِلح الوطن.
حين تُحذف لهجة، تُحذف ذاكرة قرية بأكملها.
وحين تُمنع كلمة، يُمنع شعور من البكاء.
تقول النظرية الشعورية :
“سنصنع سودانًا،
حيث تُغنّى الكمبلا ويرقص الهسيس والعَرَضة…
بلحنين مختلفين…
لكن بنَفَسٍ واحد.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى