مقالات

الجميل الفاضل يكتب .. “الخيرات”، إذ سُئلت، فبأي ذنب قُتلت؟!

من فرط الجنون عند مفترق هذا الصراع، اجتاحت قريةً بهامش المدينة، أسماها أهلها من باب التفاؤل “الخيرات”، شرُّ دواب الأرض: من جرافات وبلدوزرات، وكل الوحوش الحديدية التي تدهس كل شيء بلا رأفة.


تحطم قلوب الناس قبل أن تهدم حوائط وجدران بيوتهم.
كأنها كواسر لا تترك بيتًا قائمًا، ولا تذر منه شيئًا.
على أية حال، كم بيتًا سقط قتيلاً في هذه المجزرة؟.
فالبيوت تُقتل كما يُقتل سكانها. 
فقد أقام أهل “الخيرات” مأتمًا، تبارت خلاله نساء القرية في وضع الملح على جراحهن العميقة، تلك التي هي أيضاً “جراح غائرات ما لها عدد”.


وقد أشرن، بطرف خفي، إلى عبارات عنصرية برر بها الجناة إزالة قريتهن من الوجود، وكأنهن لجأن في تساؤلهن إلى ذات سؤال الشاعر محمد سعيد العباسي القديم: 
“ألأنّ السوادَ يغمرني؟”


المهم، فإن الذين صعدوا إلى الحكم بشكل غير مقنَّن ذات غفلة من الناس، هم أنفسهم من دمَّروا اليوم أكواخ هذه القرية الصغيرة، بزعم أنها سكنٌ غير مقنن كذلك. 
فالأشرار، في كل مكان، كالعقارب؛ من طباعهم دائمًا “حب الأذية”. 


هم هكذا على الدوام: إن لم يُصلحوا شيئًا أضروا به. 
وبالطبع، فإن للأشرار قاعدة تقول: الشرُّ حين يأتي لا بد أن يعم.


فكلما ضاق حاكمٌ بنوعٍ من الناس لأسباب تخصه، استدعى سياسةً موروثة قديمة عنوانها: “إزالة السكن العشوائي”، لتكون غلافًا سميكًا يُسدل الستار على نوايا شريرة مبيّتة.
وهكذا، تمامًا كما وصف الشاعر محمود درويش أحوالًا مشابهة، من عدو ضليع آخر في نابلس والجليل، قائلاً:


“بدقيقةٍ واحدة، تنتهي 
حياةُ بيتٍ كاملة. 
البيتُ قتيلٌ هو أيضاً 
قَتْلٌ جماعيّ 
حتى لو خلا من سُكَّانه. 
فالبيوت تُقتلُ كما يُقتلُ سكانها. 
وتُقتلُ ذاكرةُ الأشياء. 
أشياؤنا تموت مثلنا. 
لكنها لا تُدفن معنا.”


ورغم أنها لا تُدفن معنا، إلا أنها تدفن فينا ما لن ننساه أبد الدهر.
فصغار “الخيرات” قد يحاصرون كبارها بأسئلة تُحيّر عقولهم، لا يملكون لها جوابًا: 
من نحن؟ 
ومن هم هؤلاء الذين يحطمون بيوتنا؟ 
وهل هم أناس مثلكم؟ 
لهم أطفال مثلنا تأويهم بيوت؟ 
ولماذا يقولون لكم: عودوا من حيث أتيتم؟ 
فمن أين جئتم بنا إلى هنا؟


الواقع أن فقدان المأوى وحرمان الظل لا يعرفه إلا من لسعته الشمس، أو ارتعش في ليلة باردة كعصفورٍ بللته زخّات مطر.
المهم، لقد قُضي الأمر، وها هي قرية “الخيرات” تكتم الجراح على كبدها لتلعقها وحدها. 
ولم يبقَ لنا، من أضعف الإيمان، إلا أن نألم لصغارها، ونسائها، بل حتى لرجالها المغلوبين على أمرهم في النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى