تحليل سياسي .. جبريل ومناوي.. تصور مابعد (الإبعاد) من النفوذ..!

جبريل ومناوي.. تصور مابعد (الإبعاد) من النفوذ..!
تحليل سياسي: مجاهد الفاطرابي
حين وقّعت الحركات المسلحة على اتفاق جوبا في أكتوبر 2020 بدا لكثير من ابناء الاقاليم التي (تنحدر) منها هذه الحركات أن صفحة جديدة من المعاناة ستُطوى وأن شعارات العدالة والتنمية المتوازنة ستتحول أخيراً إلى حقائق ملموسة، لكن ما لبثت لتلك الآمال (العراض) أن (تخيب) لتتكشف الحقائق الصادمة.. وهي أن ما أنجزته تلك الحركات كان مجرد (تسويات) نُسجت على مقاس نخبة ضيقة..! جثمت على مؤسسات الدولة و(امسكت) بالوزارات (المهمة) و تركت إنسان تلك الاقاليم في العراء..!.
المعلوم بالضرورة هو ان هذه الحركات المسلحة جاءت إلى الخرطوم على قطار ثورة ديسمبر ٢٠١٨ محمولة على دماء الشهداء وأحلام الملايين..! فكانت حكومة الثورة هي من فتحت لها الأبواب ومنحتها شرعية سياسية (لطالما) حلمت بها لكنها وعلى نحو بدا أقرب إلى الانقلاب على الذات تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى أحد أبرز مراكز النفوذ داخل حكومة د. عبد الله حمدوك دون أن تنجح في إنجاز أي تغيير حقيقي في حياة المواطنين الذين ادّعت تمثيلهم.
الأكثر إثارة للاستغراب هو أن هذه الحركات التي حملت السلاح ضد نظام عمر البشير ورفعت رايات النضال ضد هيمنة المؤتمر الوطني إختارت في خضم الحرب الدائرة اليوم أن تصطف إلى جانب المؤسسة العسكرية التي تستند فعلياً في تقديري على بقايا النظام السابق..لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ويحتاج منا الى الاجابة عليه هو.. كيف يمكن لمن قاتل (النظام البائد) عشرين عاماً أن يتحالف مع أبرز رموزه في الحرب الدائرة الان تحت عباءة ما اسموه كرامة الوطن وسيادته..!
أليس هذا انقلاباً على كل المبادئ التي بُنيت عليها الحركات المسلحة؟(الجواب) وإن كان (موجعاً) يكمن في منطق (المكاسب) الشخصية للاسف الشديد! ولعله حين اندلعت الحرب في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع وجدت هذه الحركات نفسها بين (نارين) إما فقدان السلطة أو الارتماء في أحضان الجيش لضمان بقائها.. ولأن المنطق الذي حكم أداء هذه الحركات بدأ لكل مراقب (لحركاتها..!) محكوماً بميزان المصالح لا المباديء..! ولذلك ليس غريبا أن تنحاز لمن يضمن لها الوزارات و(الامتيازات)..!.
وبالفعل قامت ومنذ الاشهر الاولى للحرب (بفك حيادها)و سرعان ما بدأت بتقديم خدمات عسكرية للجيش ضمن تفاهمات مالية وعسكرية غير معلنة تمخضت عن دعمها ومؤازرتها له في عدد من جبهات القتال.
الملاحظ ان أغلب الحركات التي وقعت على اتفاق سلام جوبا ك(حركة الطاهر حجر، حركة الهادي ادريس بالإضافة إلى فصيل العدل والمساواة بقيادة سليمان صندل حقار) اعلنت رفضها للحرب ثم شاركت لاحقا في تحالف (تقدم) الذي كان على راسه د. عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق ثم خرجت منه وذهبت لتحالف جديد مع الدعم السريع ضمن ما يُعرف بـ(التحالف التأسيسي) وهي بلاشك خطوة تمثّل قطيعة سياسية كاملة مع روح اتفاق جوبا ومضامينه.. هذا الخروج الجماعي من عباءة الاتفاق يُفهم كمؤشر لموت (سريري) لهذا الاتفاق خاصة وأن أبرز أطرافه خرجت منه وباتت تنادي بوقف الحرب بل وانها الان تعمل على تشكيل حكومة (موازية) لحكومة بورتسودان.
في مقابل ذلك اختارت حركتا العدل والمساواة بقيادة جبريل ابراهيم وجيش تحرير السودان بقيادة مني اركو مناوي التحالف مع الجيش بعد فك حيادهما كما ذكرنا سابقا.. هناك حركات اخرى ذهبت في ذات الطريق ولكن ليس لها تأثير على المشهد ولذلك فأن هذا التحليل سيقرأ الذي سيحدث من رد فعل لهاتان الحركتان الاكثر (نفوذا) في بورتسودان بعد تشكيل الحكومة الجديدة بواسطة رئيس الوزراء الجديد.
كامل إدريس اصدر بيان صحفي امس ورغم ان نبرة البيان جاءت (تصالحية) لكن اعتقد انه يحمل في (احشائه) رسائل إقصائية واضحة موجهة لحركتي جبريل ومناوي فحين يتحدث إدريس عن حكومة جديدة لا تقوم على الولاءات بل على الإنجاز..!
فهو ينقض جوهر (المحاصصة) التي أوصلت الحركتان لمواقع النفوذ..! وعندما اشار إلى إشراك الكفاءات المتخصصة فهو يعني ضمنيا فشل الوزراء (الحاليين) ويلمّح إلى قرب الإطاحة بهم وفي مجمل بيانه يضع رئيس الوزراء الحركات في خانة الماضي ويوحي بأن القادم هو استعادة الدولة من قبضتهم، ولا يستبعد كذلك ان هناك جهات اقليمية ربما تقف وراء ابعادهما اذا اخذنا في الاعتبار ان كامل أدريس نفسه جاء بترتيبات اقليمية ودولية لتهيئة المشهد السياسي في بورتسودان لتغيير ما ربما ترى هذه الاطراف الخارجية ان هذه الحركات دورها غير مهم في القادم الجديد.
وفي المقابل يبرز سؤال مهم يجب طرحه والاجابة عليه.. لماذا “إذن” تخلى النظام القديم (المتحكم) في السلطة كما يرى الكثيرون عن أحد أكثر حلفائه إخلاصا؟.. الإجابة على الأرجح تكمن في منطق (البراغماتية) إذ يبدو أن دوائر القرار سواء داخل المؤسسة العسكرية أو خلفها من واجهات المؤتمر الوطني وصلت إلى قناعة بأن جبريل ومناوي لم يعودا يمثلان (قيمة مضافة) لا على المستوى الجماهيري ولا على مستوى السيطرة الميدانية بل ربما أصبحا عبئا على مشروع السلطة الجديد.
وهكذا يجد الرجلان نفسيهما اليوم على هامش معادلة تتشكل بعيدا عنهما ويبدو انهما عاجزان عن العودة إلى قواعدهما في دارفور بسبب المتغيرات التي فرضتها الحرب وفي الوقت نفسه هما غير قادران على فرض نفسيهما في معادلات الحكومة الجديدة في وقت لا تبدو فيه أن التحالفات الجديدة سواء في بورتسودان أو في معسكر الدعم السريع تحتمل أو ترغَب بوجودهما..! وما يزيد الطين بلة أن الجيش نفسه بدأ يتعامل معها كعبء أمني لا كحليف موثوق.. فقد أعاد نشر قواتهما في مناطق نائية وقام بخفض دعمها المالي واللوجستي على حسب تسريبات تمهيداً لإخراجهما من اللعبة دون إعلان رسمي..!.
هناك كثير من السيناريوهات التي قد تحدث في تقديري حال ابعاد جبريل ومناوي من الوزارات الاقتصادية المهمة من الاحتمالات انهما يمكن ان يذهبان إلى مراجعة تحالفاتهما الحالية.. بل وربما ينضمان لاحقا إلى (التحالف التأسيسي) بقيادة الدعم السريع.. وبإمكانية تبرير الخطوة باعتبارها ردا على تراجع الجيش عن تنفيذ اتفاق جوبا للسلام الذي كان يُفترض أن يمنحهما دورا محوريا في ترتيبات اي سلطة انتقالية يتم تشكيلها.
ورغم أن جبريل إبراهيم ظل أكثر انضباطا في تحالفه مع معسكر الجيش إلا أن مناوي يُرجّح أن يكون أول من يُقدِم على هذه القفزة السياسية بحكم سلوكه (الانتهازي) المعلن كمايراه البعض فتاريخه في التنقل بين المعسكرات بحثا عن المكاسب معلوم للجميع..فقد كشف في أكثر من حديث له عن وجود (قنوات اتصال) مع قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) ولم يتردد في توجيه انتقادات لاذعة لحكومة بورتسودان التي هو جزء منها محمّلا إياها مسؤولية تدهور الأوضاع في السودان، ما يعكس استعدادا منه (لخلط الأوراق) متى ما سنحت الفرصة.
ويُذكر في هذا السياق معلومات كانت رائجة تقول بأن مناوي خلال فترة حياده السابقة طلب دعماً مالياً من (حميدتي) ويبدو أن التأخر في الاستجابة حينها دفعه للارتماء في معسكر الجيش الذي لبّى مطالبه بسرعة وهو ما يعني أن الولاءات في هذه المرحلة شديدة السيولة وتُحسم بمعيار (المصلحة) الخاصة لا اكثر ولا اقل..!.
ويمكنني القول بأن حركتي جبريل ومناوي اذا تم إقصائهم وابعادهم نهائيا من الحكومة الجديدة المرجح وبلاشك دخولهما في تحالف جديد ربما يكون متمرد..! على الجيش كما ذكرت انفا اما اذا جاء تشكيلهم في السلطة رمزيا أي منحهما مقاعد لا قيمة حقيقية لها لإبقاء خطوط الاتصال مفتوحة..هذا برايي سيكون وضع مهين لهما وقد يدفعهما للتمرد ولكن بشكل غير مباشر! بمعنى ان يتواصلا سريا مع حواضنهم لتتحالف لتصطف مع التحالف التأسيسي والسماح كذلك (بتملص) عدد كبير من قواتهما المشتركة لتنضم الى حركة العدل والمساواة جناح سليمان صندل (المتحالف) مع الدعم السريع بذريعة إنها لم تعد قادرة على دفع مرتباتهم ، ومن جانبه وحتى لايحدث ذلك ربما يسعى عبدالفتاح البرهان قائد الجيش الى تفكيك القوة المشتركة وذلك بدفعها للاشتباك مع الدعم السريع لإستنزافها وانهاكها بحيث تنتهي قوتها ذاتيا وبالتالي التخلص منها نهائيا.
الحركات المسلحة اليوم تقف أمام امتحان و(جودي) فهي ليست فقط على أعتاب فقدان السلطة بل أيضاً فقدان المعنى..! لقد خذلت الثورة التي جاءت بها وخذلت إنسان دارفور الذي ظلت تتحدث بإسمه بتحالفها مع من كانت تقاتله من اجل القضية..! وكل ذلك حدث (فقط..!) من أجل المال والنفوذ..!.