مقالات

ايوب محمد (مجنق) يكتب .. التعددية وتقبل الآخر .. فاليكن الوعي سفينة النجاة ..!

بقلم ايوب محمد ( مجنق )

في حياتنا اليومية، نختلف كثيرًا في طريقة الكلام، في الملابس، في الأكل، في طريقة التفكير. نختلف داخل الأسرة الواحدة، وفي أماكن العمل، وفي الأحياء، وحتى في طريقة فهم الدين نفسه. لكن الغريب أن هذا الاختلاف، الذي نمارسه يوميًا دون أن نشعر، يصبح عبئًا عندما نحاول الحديث عنه بوصفه “وعيًا”.

فما الذي يعنيه أن نملك وعيًا بالاختلاف ؟
ليس مجرد أن نقول إننا نقبل الآخر، أو أننا “متسامحون” بالعموم. وعي الاختلاف يعني شيئًا أعمق: أن نفهم أن الناس مختلفون أصلًا، وأن هذا ليس خطأ يجب إصلاحه، بل حقيقة يجب إدراكها وإعادة بناء رؤيتنا للعالم على أساسها .

في السودان، كثيرًا ما يُستخدم الحديث عن التعدد بوصفه واقعًا لا مفر منه، لكنه يُقدَّم كأمر يجب “ضبطه” أو التحكُّم فيه، لا كقيمة. وهذا بحد ذاته يُظهر غياب الوعي الحقيقي بالاختلاف. فالاختلاف ليس حالة تُدار، بل طريقة يُبنى عليها الفهم والعلاقات والنظام .

وعي الاختلاف لا يعني أن نتجاوز خلافاتنا، بل أن نراها بعيون مختلفة. لا أن نمحيها باسم الوحدة، بل أن نحولها إلى أساس لوحدة جديدة، فيها مكان للجميع. وهذا يتطلب تحوّلًا في العقل، لا مجرد شعارات. لأن الناس حين يُجبرون على “التشابه”، لا يزول اختلافهم، بل تتحول اختلافاتهم إلى جراح صامتة .

لنتأمل مثلًا الطريقة التي نتعامل بها مع “الآخر” في خطابنا العام. يُقال عنه إنه “من الهامش”، “من الغرب”، “من الجنوب”، وكأن المركز وحده هو الأصل، وكل ما عداه فرع. لكن الواقع يقول إن كل هذه الجهات تُكوِّن السودان، لا طرف دون آخر.

وعي الاختلاف يبدأ حين نكفّ عن تصنيف الناس بحسب المسافة من مركزٍ متخيَّل، ونبدأ في رؤيتهم كما هم، بأصواتهم وتجاربهم وحكاياتهم .

في الحرب، تظهر الحاجة القصوى لوعي الاختلاف، لا لقمعه. لكن في الواقع السوداني، أصبح الموقف السياسي نفسه ميدانًا جديدًا للاستقطاب: يُختزل الإنسان في رأيه، فيُخوَّن أو يُمجَّد تبعًا لذلك. كل من يدعو إلى وقف الحرب أو يقدّم قراءة مختلفة يُتهم بالرمادية أو بالخيانة. هذا لا يُعبّر فقط عن ضيق الأفق السياسي، بل عن غياب عميق في القدرة على فهم أن الاختلاف في الرأي ليس خيانة، بل ضرورة حيوية لبناء مجتمع يستطيع أن يحيا بعد الحرب. فحين يُمنَع الناس من التفكير الحر، تتحول ساحة السياسة إلى مرآة للعنف نفسه .

وعي الاختلاف ليس حيادًا، بل مسؤولية. أن تدرك أنك تنتمي لمجتمع متنوع، وأن هذا التنوع يتطلب منك أن تفكر بشكل مختلف، أن تتحدث بشكل يُراعي الآخر، أن تُصغي لا لتردّ، بل لتفهم .

وهذا لا يعني أن نعيش في انسجام دائم، بل أن نعرف كيف نختلف دون أن نهدم الجسور. أن نختلف دون أن نُقصي أو نُحقّر. أن يكون لدينا مساحة للاختلاف لا تتحول إلى ساحة معركة .

إننا في حاجة إلى تربية عقلية جديدة، تبدأ من البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة والجامعة والإعلام. عقلية لا تخاف من التعدد، بل تعلّمه كمهارة. لا ترى المختلف كعدو محتمل، بل كفرصة لفهم النفس والعالم من زاوية أوسع .

حين يفهم الإنسان أنه لا يحتاج لأن يكون نسخة من غيره، ولا أن يجعل الآخرين نسخة منه، يبدأ في التحرر. وهذا هو جوهر وعي الاختلاف: أن تكون حرًا دون أن تُهدد حرية غيرك، وأن تعترف بحرية غيرك دون أن تشعر أن وجودك في خطر.

هذا الوعي لا يُنتج فقط دولة أكثر عدلًا، بل يُنتج إنسانًا أكثر طمأنينة. إنسانًا لا يخاف من العالم لأنه لا يفهمه، بل يثق بنفسه لأنه يرى في العالم مكانًا يتسع له ولغيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى