مقالات

د.جعفر محمدين يكتب .. مشروع الجزيرة بعد مائة عام : دور العمال الزراعيين وسكان الكنابي

مشروع الجزيرة بعد مائة عام : دور العمال الزراعيين وسكان الكنابي


د. جعفر محمدين عابدين

gafertamok@gmail.com

بتاريخ السبت 5 يوليو 2025م
(الحال نفس الحال لسكان الكنابي)
بعد مرور مائة عام على انطلاق مشروع الجزيرة في السودان، يُعدّ هذا المشروع أحد أكبر وأهم المشاريع الزراعية في إفريقيا والعالم العربي، غير أنه في الوقت ذاته، يكشف عن ملامح تاريخ طويل من التهميش واللاعدالة الاجتماعية، خاصة تجاه العمال الزراعيين وسكان الكنابي الذين شكّلوا ليس فقط العمود الفقري لهذا المشروع، بل الركيزة الأساسية لكل المشاريع الزراعية في السودان.

  1. خلفية تاريخية:
    أُطلق مشروع الجزيرة في عشرينيات القرن الماضي، بتمويل وإدارة استعمارية بريطانية، بهدف إنتاج القطن للتصدير. ومنذ بداياته، اعتمد المشروع على العمالة الزراعية الموسمية والمستقرة، خاصة من الهامش الجغرافي والاجتماعي (دارفور، كردفان، النيل الأزرق، جنوب السودان سابقًا).
    استقر هؤلاء العمال في مساكن تُعرف بـ”الكنابي”، وهي مشتقة من الكلمة الإنجليزية Camps، وقد أُقيمت قرب الحواشات (الحقول) بدون تخطيط أو خدمات.
  2. دور العمال الزراعيين وسكان الكنابي في المشروع:
    منذ التأسيس في 1924–1925، كان العمال الزراعيون وسكان الكنابي القوة الحقيقية التي نفذت الزراعة والحصاد والري، وساهموا حتى في شق الترع والكنارات، وبناء السرايات والكباري والمنشآت الحيوية.
    لقد شاركوا فعليًا في تخطيط وإنجاح المشروع، وصمدوا خلال فترات الحروب والأزمات الاقتصادية. بل إن العمل الزراعي في الجزيرة أصبح يُورث من جيل إلى جيل.
    ورغم هذا الدور الحيوي، تم إقصاؤهم من التملك والتخطيط واتخاذ القرار داخل المشروع.
  3. الإقصاء والتهميش:
    لم يتم الاعتراف بسكان الكنابي كمزارعين أو كملاك، بل كـ”عمال هامشيين”.
    حُرموا من أبسط الحقوق: السكن الدائم، الماء، التعليم، والصحة.
    عاشوا ظروفًا أشبه بالعبودية الاقتصادية والاجتماعية، في مشهد شبيه بالعصور الإقطاعية المظلمة في أوروبا.
    لم تكن هناك قوانين تحميهم أو تُقنن وجودهم، بل كانت هناك قوانين مقصودة لتهميشهم.
  4. الواقع الراهن بعد قرن:
    رغم مرور مائة عام، لا تزال الكنابي قائمة، وتحولت بعضها إلى تجمعات سكنية كبيرة دون اعتراف قانوني.
    يعاني السكان من التمييز العنصري والإقصاء الإداري والخدمي، رغم أنهم يشكلون ما لا يقل عن 50% من سكان ولاية الجزيرة، وربما أكثر.
    تحولت مطالبهم إلى قضية إنسانية وحقوقية، ترتكز على:
    الاعتراف بالمواطنة الكاملة،
    الحق في التعليم والصحة والسكن،
    والمشاركة في القرار السياسي والإداري للمشروع.
  5. نحو العدالة والإنصاف:
    لا يمكن الحديث عن مستقبل مشروع الجزيرة دون إنصاف سكان الكنابي، الذين هم روح المشروع وعماده.
    من أبرز مظاهر التمييز التي شهدها تاريخ المشروع بعد سودنته في الأربعينات:
    حرمان سكان الكنابي من التوظيف في إدارة المشروع.
    حرمانهم من الخدمات الاجتماعية.
    منع توارث أبناء العمال للحواشات.
    فرض قيود على امتلاك الجنسية السودانية، خصوصًا لمن ينحدرون من مناطق غرب السودان، وهو ما ترتب عليه إسقاط حقهم في التملك، رغم أن كثيرًا منهم كانوا ملاكًا لحواشات بلغت نسبتهم حينها حوالي 15%.
    لقد كان هناك تحول طبيعي من العمالة إلى الملكية، لكن تلك السياسات قطعت الطريق أمام تطورهم الاجتماعي والاقتصادي، لإبقائهم كقوة عاملة فقط.
    لذلك يجب اليوم تبني رؤية تنموية عادلة، تعيد كتابة تاريخ مشروع الجزيرة من منظور العمال والمهمشين، وتقرّ بأبسط حقوقهم:
    تحويل الكنابي إلى قرى نموذجية بخدمات كاملة،
    منحهم حقوق المواطنة الكاملة،
    ودمجهم في المشروع بصفتهم شركاء لا عمالاً فقط.
    خاتمة:
    مشروع الجزيرة بعد مائة عام، ليس مجرد قصة نجاح زراعي، بل هو أيضًا قصة تاريخ غير مكتوب لآلاف من العمال الزراعيين وسكان الكنابي، الذين صنعوا هذا المجد بعرقهم ودمهم.
    ولا يزالون اليوم يناضلون من أجل الكرامة والاعتراف.
    إن سكان الكنابي هم مفتاح العدالة الاجتماعية، والاستقرار السياسي والتنمية المستدامة في قلب السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى