فن وثقافة

ريشة تقاوم الحرب : بحكايات بصرية في زمن العتمة سارة البدري.. فنانة تنحاز للوجع وتصنع الأمل بالألوان

ريشة تقاوم الحرب: بحكايات بصرية في زمن العتمة
سارة البدري.. فنانة تنحاز للوجع وتصنع الأمل بالألوان


بروفايل :حسين سعد


وسط هدير الرصاص وصمت المعاناة، تنبت الألوان، ومن بين الرماد ينهض الجمال كحالة مقاومة، هناك، في عمق الوجع السوداني، تقف الفنانة التشكيلية سارة البدري شامخة كلوحة لا تنكسر، ترسم لا لتوثّق الألم فحسب، بل لتحوّله إلى حياة، تفتح نوافذ الضوء وسط ظلمة الحرب، وتحوّل الفرشاة إلى سلاح ناعم يدافع عن الذاكرة والكرامة والإنسان.

سارة البدري ليست مجرد فنانة تشكيلية، بل حالة وجدانية كاملة تعيش تفاصيل السودان، تنقلها بألوانها الحارة، وأشكالها المتمردة، وخطوطها الموجوعة، لوحاتها تحكي عن النزوح، والحنين، والأنوثة، والمقاومة، وعن الوطن الذي تحبه ، ما زالت تُصرّ على أن الفن باقي، وأن الجمال مقاومة، في زمن يتهاوى فيه كل شيء، ظلت سارة تقيم معارضها، وتعرض رسوماتها في البيوت المهجورة، أو على جدران الأمل، رفضت الرحيل، وظلت ترسم رغم القصف، رغم إنقطاع الكهرباء، رغم الدموع تمسك بالفرشاة كأنها تمسك الروح.

وتعلن من خلال كل لوحة أن الفن في السودان لم يمت، وأن القلوب المبدعة لا تعرف الإستسلام، ولدت سارة بأمدرمان وتخرجت من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ، وتقول الاستاذة فاطمة حسن عثمان في حديثها مع (مدنية نيوز) إن زميلتها وصديقتها في كلية الفنون الجميلة سارة البدري شاركت في العديد من الورش التشكيلية داخل وخارج السودان، وهي عضو في الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين ، وعضو مؤسس لجمعية التشكيليات السودانيات ، ومشرفة في منصات التواصل الإجتماعي علي عدد من الصفحات الفنية مثل مجموعة بيت التشكيليات السودانيات وغيرها من القروبات التشكيلية النشطة، وأضافت فاطمة حسن وهي تشكيلية تقيم في نيروبي ومتزوجة من حسن وهو فنان تشكيلي أيضا زرتهم في منزلهم الذي تزينه الرسومات بشكل بديع ، زرتهم برفقة الفنان عاصم الطيب وصديقي التشكيلي الشامل عصام عبد الحفيظ المبادر في كل الملمات ونظم برفقة عدد من الفعاليات والمعارض داخل وخارج السودان، وعملت من قبل مع عصام في صحيفة أجراس الحرية.

تقول فاطمة حسن : إن مساهمات سارة المجتمعية ، عملت كمدربة في مجال صناعة الفخار بعدد من مناطق النزوح في السودان، مثل منطقة كيلك البحيرة ، ومنطقة الرشاد بـولاية جنوب كردفان في تدريب نساء القري المجاورة برعاية من منظمة الإيقاد، وعملت أيضًا فى تصميم الدعاية والإعلان ضمن فريق شريف قرافيك، وشاركت في عدد من فعاليات معرض الخرطوم الدولي والمعارض الموسمية كعضو في الفريق الفني لعدة سنوات، وقبل الحرب كانت سارة تعمل كمعلمة تعليم قبل مدرسي في مدرسة أكاديمية أفيناش، حيث وجدت في هذا المجال فرصة للإبتكار في الوسائل التعليمية والفنية مع الأطفال، ومن المهتمات بقضايا المرأة.

وتدعم نجاحاتها في مختلف مسارات الحياة، وتكرّس جزءًا من نشاطها على السوشيال ميديا فى التثقيف البصري وتسليط الضوء على الفنون التشكيلية والبصرية.

ومن جهته يقول الأستاذ التشكيلي عصام عبد الحفيظ إن الأستاذة سارة البدرى التشكيلية السودانية تميزت من خلال تجربتها منذ التخرج من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية الخرطوم ، قدمت لوحات متميزة وتجارب متعددة فى الرسم والتلوين والعمل الاعلانى القرافيكى ، ورسمت لوحاتها من واقع بلادنا المعقد ، وساهمت بقدرتها وخبرتها علي العمل الجماعي ، وتنفيذ فكرة المعارض برؤية مواكبة لما يحدث الأن فى التحول الإسفيرى لأغلب الأنشطة الإبداعية مرئية.


لوحات في وجه العاصفة:


حين تنظر إلى لوحات سارة البدري، لا ترى فقط ألوانًا وأشكالًا، بل تسمع صوتًا داخليًا يهتف بالحياة، رغم كل ما يحيط بها من موت، وجوه نسائها المنحوتة بالألم، تفاصيل المدن التي إحترقت، والأحلام التي تقفز من إطار إلى آخر، كلها تقول إن سارة لا ترسم من أجل الجمال فحسب، بل من أجل الحقيقة ، في أعمالها، تحضر المرأة السودانية كرمزٍ دائمٍ للثبات والصبر، تحمل الطين والماء والحكايات، تنظر بعينين مليئتين بالحزن والقوة، لا تترك سارة تفاصيل الوجع تغرق ، بل تحوّله إلى رسائل بصرية مدهشة، تصرخ وتبكي وتقاوم في صمتها، في كل خطّ من خطوطها تجد الحنين للوطن، والإحتجاج على تمزّقه، والرغبة الملحّة في ترميم روحه، وفي زمن الحرب، حين غادر بعض الفنانون، وإختفت المعارض، وأُغلقت دور العرض، ظلت سارة البدري ترسم، على قماش مهترئ، أو ورق قديم، أو حتى على الجدران، كانت تعرف أن الوطن يحتاج إلى من يشهد، إلى من يوثق، إلى من يحبّه رغم كل شي.

رسوماتها أصبحت مثل ضمادات على جراح الوطن، أو شهقات لونية في رئة تختنق، سارة لا تبحث عن الضوء الإعلامي، بل تصنع ضوءها الخاص، تختار الصدق على الشهرة، والوجع على المجاملة.، لذلك أصبحت أعمالها ملاذًا للقلوب التعبة، ولغةً لكل من لا يستطيع أن يعبّر بالكلمات، حتى في أصعب الظروف، تزرع شتلة أمل جديدة، كأنها تقول الفن لا يُهزم، والوطن لا يموت ما دامت الفرشاة في يدٍ صامدة ، سارة البدري ليست مجرد فنانة، بل شاهد على عصر، وراوية حكاية، وصوتُ قلبٍ يصرّ على أن السودان – رغم الألم – سيعود يومًا أكثر جمالًا.

وبسؤالي للاستاذة فاطمة حسن عثمان التي رافقت سارة البدري كلية الفنون الجميلة والتطبيقية منذ العام 1993م عن الأسلوب الفني لسارة البدري قالت فاطمة :
تنقل بين المدارس الفنية بحرية لا تلتزم نهج مدرسة تشكيلية واحدة احيانا تجمع ما بين الواقعى والتجريد والتكعيبية، وبين الفن الزخرفى والتعبيرى مع تأثر ومزيج بين التراث السودانى الافريقى والعربى.

فى الفترة الأخيرة ركزت على البحث عن أسلوبها الخاص، وركزت على تقنية التنقيط التي إستخدمتها كثيرا فى أعمال الأبيض والأسود خاصة الأعمال الخاصة بسلسلة معارض أيام الحرب الذى تنشره منصة ريمينار ارتست قالارى ، كما كانت توثق للحرب، وترسم عن مشاهد حياتية أو رمزية بأسلوب مختلف به كثير من الزخارف والألوان الزاهية مع الأبيض والأسود.


فنانة من رحم الألم:


في رحلة سارة البدري، لا تنفصل سيرتها الشخصية عن سيرة وطنها، ولا تنفصل ملامحها عن ملامح شعبها، فهي ابنة هذا التراب، تربّت بين أصوات الأمهات في الأزقة، وعرفت باكرًا كيف يكون الرسم ملاذًا من القهر، وكيف تصير اللوحة سجلاً عاطفيًا للنجاة، لم تدرس الفن بمعايير أكاديمية صارمة، لكنها شربته من الحياة، من وجوه البسطاء، ومن جدران الحارات التي حملت أولى تجاربها، حين كانت الطفلة التي ترسم بالأصابع، وتلّون بالأمل، الحرب التي إندلعت لم تكسرها، بل منحتها لغة جديدة، أكثر قسوة وعمقًا باتت الريشة تتحرّك في يدها بثقل التجربة، وثقل الخسارات، وأصبحت الألوان أكثر حدةً ووضوحًا.

صار السواد فيها يحمل دلالة، والفراغ في اللوحات أكثر بلاغة من الكلام، من لوحاتها، يمكنك أن تشم رائحة الخبز المعدوم ، وتلمح طوابير النزوح، وترى عيون الأطفال الحائرة، وجدران البيوت التي تهاوت لكنها لم تُهزم، وفي أحلك الظروف، حين غاب الأمان، وإشتدت وطأة النزوح، إختارت سارة أن تكون صوتاً للجمال في زمن الدم، هكذا، أصبحت سارة البدري جزءًا من المقاومة اليومية السودانية، مقاومة لا تُدار بالبندقية، بل باللون والخط والتكوين، هذا البروفايل ليس عن فنانة تشكيلية فقط، بل عن ضمير حيّ، يقاوم الحرب بريشة، ويزرع في العيون بريقًا، وفي الأرواح يقينًا بأن السودان، حين يستعيد عافيته، سيكون أكثر دفئًا وجمالاً بفضل من ظلّوا يزرعون الأمل بألوانهم، مثل سارة البدري.

وتحكي فاطمة حسن عثمان من مقر إقامتها في العاصمة الكينية نيروبي عن سارة البدري بقولها: بالرغم من ظروف الحرب والنزوح الذي طال معظم الأسر السودانية، إلا إن العم حسن البدري رفض مغادرة منزله الذى يقع فى منطقة عسكرية بمحلية كررى، تركه عندما أصيب المنزل بدانتين بعدها قرر مغادرته الى منطقة امدرمانية، ونشطت سارة على نشر الثقافة التشكيلية من خلال منصات التواصل الاجتماعي، رغم عدم إستقرار التيار الكهربائي والإنترنت، ولكنها عملت بجهد، وآخر هذه الإنجازات كان تنظيمها مع الأعضاء في جمعية التشكيليات السودانيات، معرض (عنقاء الرماد )الذي نشر إسفيرياً عبر صفحة الجمعية على الفيسبوك، والذي ضم حوالي (58) فنانة تشكيلية من مختلف التخصصات، من مختلف مدن العالم، تم فيه عرض قرابة (300) عمل فني، والذي هدف إلى إعادة نشاط الجمعية من جديد.

كانت سارة هي الدينمو المحرك لهذا المعرض حيث عملت بجهد في تنظيمه وتجميع اللوحات والعمل مع عدد من التشكيليات على إخراج هذا العمل الجبار، ونشره على منصات التواصل الاجتماعي، وتضيف فاطمة : سارة شخصية قوية، مثقفة، مكافحة في نشر التشكيل، وذات عزيمة واصرار، اتمنى لها النجاح الدائم في مساعيها، في التشكيل والحياة، وافتخر بصداقتي لها دائماً، فهي شخص يعتمد عليه فعلا في هذه الحياة.

ذاكرة الوطن الملونة:


ما يُدهشك في تجربة سارة البدري ليس فقط إلتزامها الفني، بل إلتزامها الإنساني، فهي لا ترى الفن ترفاً أو مهنة، بل ضرورة. جزءٌ من المعركة الكبرى من أجل البقاء، من أجل الكرامة، ومن أجل سرد الرواية السودانية بأدوات بصرية، نابضة، وحقيقية. سارة ليست فقط من رسمت الحرب، بل من عاشت آثارها بكل تفاصيلها — إنقطاع الكهرباء، فقدان الأحبة، الرعب اليومي، النزوح القسري — لكنها، وسط كل ذلك، كانت وما تزال ترفع شعارًا بسيطًا وعميقًا:

يقول الأستاذ التشكيلي عصام عبد الحفيظ في حديثه مع (مدنية نيوز) إن الأستاذة سارة البدرى التشكيلية السودانية تميزت من خلال تجربتها منذ التخرج من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ، قدمت لوحات متميزة وتجارب متعددة فى الرسم والتلوين والعمل الإعلانى الغرافيكى ، ورسمت لوحاتها من واقع بلادنا المعقد ، وساهمت بقدرتها وخبرتها علي العمل الجماعي ، وتنفيذ فكرة المعارض برؤية مواكبة لما يحدث الأن فى التحول الإسفيرى لأغلب الأنشطة الإبداعية المرئية.

ونجحت في إقامة معرض جمعية التشكيليات بمشاركة (55) تشكيلية سودانية من مختلف الأجيال، وتسييدت سارة الميديا وأصبحت علامة لاتخطئها العين ،وبعثت الأمل فى عودة النشاط التشكيلى ونشر الوعى البصرى، ومواصلة لمعرض إتحاد التشكيليين السودانيين فى شهر نوفمبر ٢٠٢٤ بمشاركة أكثر من (110) تشكيلى، وتشكيلية وهذا الأمر مهمة فى المواصلة وإبراز دور التشكيليين والتشكيليات لما يدور فى وطننا الحبيب.


واضاف عصام : تجربة التشكيليات السودانيات تضىء الطريق فى مرحلة السودان القادمة من بناء الإنسان السودانى، وإعادة الثقة للتعايش السلمى ونبذ الكراهية والعنصرية وآن الأوان ان يتم التشبيك بين كل المنظمات والجماعات التى تعمل فى مجال الإبداع فهم وجدان الأمة ونبضها الحى، وختم عصام حديثه بالتحايا للفنانة سارة البدري وما ظلت تقدمه في مجال الوعى والتغيير الإيجابي.


ألوان لا تنكسر:


ربما لا تعرف سارة إلى أين تمضي البلاد، ولا متى تنتهي هذه الحرب، لكنها تعرف جيدًا أن دورها واضح: أن ترسم أن تحوّل الألم إلى أمل، والخراب إلى لوحة، والغياب إلى ذاكرةٍ لا تموت، ولهذا، فإن الحديث عن سارة البدري هو الحديث عن فنٍ يُولد من الرماد، عن قلبٍ ينبض فوق الركام، وعن امرأةٍ قررت أن تحب السودان بطريقتها: لوحةً بعد لوحة، وأملًا بعد أمل، فمن أراد أن يعرف كيف يُقاوم الفن، فلينظر إلى أعمال سارة البدري.

ومن أراد أن يرى كيف يمكن للحياة أن تنتصر وسط الموت، فليتأمل كيف ما زالت فرشاتها ترقص، رغم أن في القلب حريق، وما تفعله لا يتوقف عند حدود الإبداع الشخصي، بل يتجاوزها إلى فعلٍ جماعي يُعيد تعريف الفن في زمن الكارثة، فهي ليست فقط فنانة ترسم من أجل التعبير، بل من أجل التغيير. تسعى أن يكون لكل لوحة أثر، ولكل معرض هدف، ولكل فكرة حياة تمتد خارج إطار القماش. وقد أصبح حضورها مصدر إلهام للعديد من الشابات السودانيات، اللواتي رأين فيها نموذجًا للقوة، وللإبداع الذي لا يعرف الاستسلام، ولا يساوم على المبدأ.


بالفن لابالسلاح:


وفي ختام هذا البروفايل، لا يسعنا إلا أن نقف وقفة فخرٍ أمام تجربة الفنانة سارة البدري، هذه الروح النبيلة التي إختارت البقاء مع الناس حينما إشتدت العتمة، وإختارت أن تحوّل الألم إلى لون، والمعاناة إلى فنّ، والخوف إلى طاقة مُضيئة، شكرًا لسارة لأنها إختارت أن تكون إلى جانب البسطاء، ترسم وجوههم، وتحمل همومهم، وتوثّق حكاياتهم بريشةٍ لا ترتجف، لم تعتبر الفن ترفًا، بل رسالة، وموقف، وإنحياز صادق لقضية الإنسان السوداني في أصعب لحظاته.

نفتخر بسارة البدري وبالمراة السودانية ، ليس فقط لفنّها الجميل والعميق، بل لصدقها النادر، لوفائها لأرضها، ولموقفها الذي يقول بكل وضوح: أنا مع الناس، في الشارع، في النزوح، في الخوف، في الحلم، في الحياة لقد جسّدت المعنى الحقيقي للانحياز للفقراء والمهمشين والمنكوبين، ورفعت من خلال لوحاتها صوت من لا صوت لهم، وكتبت بلغة الألوان ما عجزت عن قوله الخطب والمقالات، وكل عملٍ من أعمالها، كان بمثابة صرخة حب ووفاء لهذا الشعب الذي لم يغادر قلبها لحظة، رغم الألم، رغم الحرب، رغم الخذلان، البدري ليست فقط فنانة تشكيلية، بل ذاكرة حية للوطن، وصوت نقيّ من أصواته، ومشهد مُضيء وسط هذا الليل الطويل ،لأنها رسمت من عمق الوجع، لا من برجٍ عاجي، ولأنها لم تنتظر أن تهدأ العاصفة كي تبدع، بل أبدعت وسطها، ووقفت في مواجهة العدم بريشتها وإيمانها العميق بأن الفن يمكنه أن يُرمم ما تهدّم، ويُداوي ما تكسّر، ويُحيي ما مات في النفوس من رجاء، إمرأة حملت الوطن في قلبها وريشتها، وسارت به بين الموت والحياة، لتُعيد لنا، شيئًا من المعنى.. شيئًا من الجمال.. وقطرة نور في زمن معتم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى