تحليل .. تفكيك الدولة عبر تقاسم الغنائم : المحاصصة بين وهم التمثيل وواقع الانقسام (8-8)

تفكيك الدولة عبر تقاسم الغنائم:
المحاصصة بين وهم التمثيل وواقع الانقسام (8-8)
تحليل:حسين سعد
أكثر ما يُحزن في مشهد المحاصصات السودانية هو إختطاف طموحات الثورة، ومطالب الشارع من قِبل نخب إعتادت تدوير السلطة فيما بينها، دون إكتراث بالأثمان الباهظة التي يدفعها المواطن العادي—من نزوح، وقتل، وجوع، وتهميش، فالثورة التي خرج فيها السودانيون مطالبين بالحرية والسلام والعدالة، تحوّلت على أيدي البعض إلى منصة لتوزيع المناصب وتبادل الولاءات، بينما تتساقط المدن والقرى ضحية الحرب والفساد والإنقسام، في ظل هذه الممارسات، تتآكل مشروعية الدولة شيئاً فشيئاً، ويزداد الشك في جدوى السياسة، وتتسع الفجوة بين الحاكم والمحكوم، أما المجتمع الدولي، فلا يمكن أن يظل شريكاً جاداً في مسار يُدار بالمحاصصة، لأن الدول لا تحترم حكومات ضعيفة، مشتتة، لا تملك رؤية أو قاعدة شعبية، بل تُراهن على استمرار التوازنات الهشة فقط.
تقويض الدولة:
المحاصصات أيضاً تُغلق الباب أمام المحاسبة والعدالة الانتقالية، فكل طرف يحتمي بحصته وبموقعه داخل السلطة، ويتهرب من المساءلة تحت مبررات التوازن السياسي، بينما تظل قضايا الإنتهاكات، وجرائم الحرب، ونهب الموارد، بلا حساب ولا إنصاف، والأسوأ من ذلك، أن المحاصصة تغذي النزاعات المسلحة، لأن من لا يجد نصيبه في المركز، قد يحمل السلاح ليطالب به بالقوة، وهكذا تُصبح الدولة رهينة لمن يهدد أكثر، لا لمن يُحسن الأداء أو يطرح مشروعاً وطنياً، ولذلك فإن الوقت لم يعد يسمح بالصمت والمجاملة، السودان بحاجة إلى مقاربة شجاعة وجذرية تقطع الطريق على المحاصصات، وتُعيد الإعتبار لفكرة الدولة ككيان يعبر عن الجميع، لا كغنيمة للفوز السياسي، لقد آن الأوان لنُعيد طرح الأسئلة الجوهرية؟ من يملك الحق في الحكم؟ كيف نضمن العدالة لا الترضيات؟ كيف نبني دولة لا تسقط عند أول خلاف؟ والإجابة تبدأ من كسر حلقة المحاصصة، وإعادة السلطة إلى الشعب، لا إلى من يدّعي تمثيله دون تفويض؟ فإما أن نواجه المحاصصات كأصلٍ للأزمة، أو نُواصل الدوران في نفس الحلقة، حتى تنهار الدولة تماماً، إن الإستمرار في هذا النهج الكارثي من المحاصصات لا يهدد الحاضر فحسب، بل يزرع بذور فشل طويل الأمد، يصعب إقتلاعه حتى لو توقفت الحرب اليوم، فالدول لا تنهض فقط بإيقاف القتال، بل ببناء عقد إجتماعي جديد يقوم على الشفافية، والمساءلة، والمساواة في الحقوق والفرص، أما المحاصصة، فهي نقيض لكل ذلك نظام هش يتأسس على الخوف والترضيات لا على الرؤية والمبادئ، وما يُثير القلق أن هذا النهج أصبح مألوفاً ومقبولاً لدى كثير من الفاعلين السياسيين، بل ومُبرراً بأنه السبيل الوحيد لتجنب الحرب أو الحفاظ على التوازن، لكن الحقيقة المُرّة هي أن المحاصصة ليست حلاً للأزمات، بل وسيلة لإعادة إنتاجها في أشكال أشد تعقيداً وخطورة.
السيناريوهات:
إن الإستمرار في هذا المسار هو بمثابة توقيع على شهادة وفاة الدولة السوداني، فالمجتمعات التي تُدار بهذا الأسلوب لا تعرف إستقراراً، بل تعيش على وقع الأزمات المتكررة، وتنتج طبقة سياسية معزولة، لا همّ لها سوى الحفاظ على نصيبها من (كيكة السلطة)، ولو على حساب إنهيار البلاد، ولذا، فإن الدعوة للخروج من نفق المحاصصات لم تعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة وطنية عاجلة. والمطلوب اليوم، فإما أن نبني دولة تتسع للجميع وتُدار بالكفاءة والمساءلة، أو نواصل السير نحو مستقبل غامض، تُختطف فيه الأحلام مرة أخرى على يد من لا يؤمنون بوطنٍ للجميع، ولذلك، فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح بقوة اليوم هو؟ هل نريد سوداناً نُشارك فيه كمواطنين أم نرضى بسودان نُدار فيه كحصص؟ والإجابة ستُحدد مصير أمة بأكملها؟ فيما يلي ثلاث سيناريوهات محتملة لمستقبل السودان في ظل إستمرار أو تفكيك نظام المحاصصات، مع تحليل لأثر كل منها على الحكم، الإستقرار، العدالة الإنتقالية، وسيادة حكم القانون؟
السيناريو الأول:
إستمرار المحاصصات كمنهج دائم للحكم؟ من سمات هذا السيناريو ومؤشراته ، بقاء السلطة موزعة بين أطراف سياسية وعسكرية عبر صفقات فوقية، وإعتماد التوازنات الجهوية والقبلية بدلاً من الكفاءة والمؤسسات، من الأثار المحتملة ، تكوين حكومة ضعيفة، مترددة، غير قادرة على إتخاذ قرارات إصلاحية، خاضعة لفيتوهات الشركاء، هشاشة أمنية دائمة، وصراعات مسلحة قابلة للاشتعال متى ما اختل التوازن، تجميد أو تسييس ملفات الجرائم والانتهاكات، مع غياب محاسبة فعلية، تآكل القضاء وتحوله إلى أداة لخدمة مصالح الأطراف، واستمرار الإفلات من العقاب، النتيجة هي إنهيار تدريجي في مؤسسات الدولة، وشرعنة الفوضى، وزيادة النزوح والعنف، وتراجع ثقة المواطن في الدولة، وفي تقديري هذا السيناريو راجح تماماً في ظل الإستمرار في هذه المنهجية المعطوبة؟
السيناريو الثاني:
تفكيك تدريجي للمحاصصات عبر إصلاح سياسي شامل، وإنطلاق حوار وطني شامل يفضي إلى مشروع إنتقالي لا يقوم على المحاصصات، وإعادة بناء المؤسسات على أساس قومي ومهني، الاثار المحتملة لذلك تكوين حكومة مدنية قوية ذات مشروعية شعبية، تعمل وفق برنامج وطني متفق عليه، تحسن تدريجي في الأوضاع الأمنية، ودمج القوات في جيش موحد، وتراجع النزاعات، إنطلاق عمليات الحقيقة والمحاسبة، وإنصاف الضحايا ضمن مسار شامل للمصالحة، تعزيز إستقلال القضاء، وإستعادة ثقة الناس في مؤسسات العدالة، النتيجة المتوقعة، بناء دولة مستقرة وقابلة للنهوض، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وفتح الطريق أمام التنمية الشاملة، في تقديري هذا السيناريو بعيد المنال وليس هنالك إي مؤشرات لنجاحه؟
السيناريو الثالث:
إنهيار نظام المحاصصة بشكل فوضوي دون بديل مؤسسي، ومن سماته ، تفجر الخلافات بين أطراف المحاصصة دون توافق بديل، وإنسحاب بعض القوى نحو التسليح أو التمرد، من المؤشرات تكوين الحكومة وبيانات الحركات الموقعة علي سلام جوبا ومطالبتها بحصتها في السلطة ومطالبة درع السودان أيضاً وفي السابق محاصصة قوي الحرية والتغيير في الحكومة الإنتقالية، فالآثار المحتملة هي فراغ دستوري، أو حكومات أمر واقع في مناطق مختلفة، مع عودة المركزية المسلحة، تصاعد الاقتتال الداخلي، وتفكك ما تبقى من وحدة الدولة، إهمال كلي لملف العدالة، وعودة الانتهاكات على نطاق واسع، إنهيار تام لمنظومة القانون والقضاء، وإنتشار الفوضى والعنف، النتيجة هي إحتمال إنزلاق السودان نحو نموذج الدولة الفاشلة، أو التقسيم غير الرسمي بين مراكز نفوذ عسكرية وجهوية، وهذا السيناريو في تقديري الأكثر رجحاناً؟
الختامة: يجب أن نُدرك أن مستقبل السودان لا يُبنى على صفقة بين أمراء الحرب وقادة الأحزاب، بل على إرادة شعب حيّ دفع ثمناً باهظاً من أجل الحرية والكرامة، فلتكن المحاصصات درساً قاسياً من الماضي، لا عنواناً لمستقبل تُراد كتابته على أنقاض الأحلام، لقد إنعكس أثر المحاصصات بوضوح على مسار العدالة الإنتقالية، التي ظلت حبيسة الإرادات السياسية المتصارعة، حيث تُغيب الملفات الحاسمة أو تُجمد، حفاظاً على توازنات هشة بين الأطراف، مما حال دون إنصاف الضحايا، ومساءلة الجناة، وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية، لا إستقرار بلا عدالة ولا عدالة بلا دولة ، ولا دولة تُبني علي المحاصصة، وما لم يتم كسر هذه الحلقة الجهنمية، فإن العدالة الانتقالية ستظل مؤجلة، وسيادة القانون مفرغة من مضمونها، والإستقرار مجرد حلم بعيد، فالمصالحة الوطنية الحقيقية لا تقوم على محاصصات تُكافئ أطراف النزاع، بل على كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، ومحاسبة الجناة، وبناء مؤسسات لا تخضع للتجاذبات السياسية.
إن الشعب السوداني الذي قدّم التضحيات الجسام في سبيل الحرية والعدالة، يستحق أكثر من مجرد حكومة ترضيات إنه بحاجة إلى سلطة تُمثّله بحق، وتضع حداً لعقود من الظلم والفساد والإنقسامات، ولذلك، فإن القطع مع المحاصصات ليس مجرد مطلب نظري، بل شرط أساسي لبناء سودان جديد قائم على العدالة، والمواطنة، وحكم القانون، والإستقرار المستدام، إن مستقبل السودان مرهون بقدرتنا علي تجاوز منطق الغنائم السياسية ، والتأسيس لحكم ديمقراطي مدني يقوم إرادة الناس ، لا صفقات ومحاصصات.