مقالات

جعفر محمدين يكتب .. العمال الزراعيون سكان الكنابي في المشاريع المروية : دورٌ لا يُنكر وسندٌ لا يُهدم

العمال الزراعيون سكان الكنابي في المشاريع المروية:
دورٌ لا يُنكر وسندٌ لا يُهدم


جعفر محمدين عابدين
gafertamok@gmail.com
بتاريخ 22يوليو 2025م


لا يختلف اثنان على أن العمال الزراعيين من سكان الكنابي هم الركيزة الأساسية التي نهضت على أكتافهم العمليات الزراعية في مشروع الجزيرة، بل وفي سائر المشاريع المروية الكبرى في السودان. هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين حرثوا الأرض، وبذروا البذور، وسقوا الزرع بعرقهم، وجنوا الحصاد في أشد الظروف المناخية والاجتماعية والسياسية قسوة.


أما الأصوات التي تحاول التقليل من شأنهم أو إنكار حقوقهم، فهي أصوات نشاز لا تجد لها موطئ قدم بين مجتمع المزارعين الحقيقيين، لأنها تفتقر إلى المصداقية ولا تملك سجلًا حقيقيًا من الكفاح والإنتاج.


قيمة الإنسان الكمباوي لم تكن يومًا محل تقليل أو تشكيك. فقد عرفه العالم منذ حقب بعيدة، حتى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس حين ساهم بجهده في زراعة القطن الذي شكّل عصب مصانع “لانكشير” البريطانية خلال الحقبة الاستعمارية. ولولا عرق هؤلاء العمال، لما ازدهرت تلك المصانع، ولا بُني جزء كبير من اقتصاد السودان الحديث آنذاك.


لقد آن الأوان أن يُكافأ هذا الإنسان المكافح، الذي ظل يعمل بجد وإخلاص لعقود طويلة. وحتى بعد انهيار مشروع الجزيرة نتيجة سياسات نظام الإنقاذ الكارثية، لم يتخلَّ عن أرضه، بل ظل صامدًا، متمسكًا بها رغم الإهمال والتهميش. إنصافه اليوم ليس مِنّةً، بل هو استحقاق تأخر كثيرًا.


وعندما نتحدث عن الإنصاف، فإننا لا نعني ـ كما يدّعي البعض ـ نزع الأراضي من أصحابها، بل نقصد تقنين أوضاع سكان الكنابي قانونيًا وإداريًا، ودمجهم ضمن القرى والمراكز الحضرية القائمة. فقد تحوّلت العديد من الكنابي إلى مجتمعات مستقرة تضم آلاف الأسر، لكنها لا تزال محرومة من أبسط مقومات الحياة: مياه شرب نظيفة، خدمات صحية، مدارس، كهرباء، وطرق ممهدة.


هؤلاء الناس عفيفو اليد، زاهدون، لا يسعون لأخذ ما لا يحق لهم، كما يروّج بعض ضعاف النفوس الذين يلصقون التهم جزافًا بسكان الكنابي، خاصة بعد هذه الحرب اللعينة التي قضت على آمال وطموحات الإنسان الكمباوي بعد ثورة ديسمبر المجيدة. لقد كان الأمل معقودًا على أن تُحدث الثورة تغييرًا جذريًا في بنية الدولة السودانية، لكن قوى الظلام أشعلت الحرب لقطع الطريق أمام ذلك التغيير.


نحن لا ندّعي طهارة مطلقة لأي مجتمع، ففي كل مجتمع الصالح والطالح، ولكن من الظلم أن يُوصم مجتمع بأكمله بالعمالة أو الخيانة. وما يُروّج من تهم بحق سكان الكنابي ليس سوى محاولة لشيطنتهم وطمس تاريخهم الطويل في خدمة الوطن.


فقد حدث، على سبيل المثال، أنه بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005، اتهمت بعض الدوائر في ولاية الجزيرة سكان الكنابي بالانتماء للحركة الشعبية، وتم ترحيل بعض الكنابي، مثل دار السلام – الباقير. وعندما وقعت عملية الذراع الطويل بقيادة الشهيد د. إبراهيم خليل عام 2008، أُلصقت التهم مجددًا بسكان الكنابي بأنهم ينتمون لحركة العدل والمساواة.

واستُكمل هذا المسلسل من الافتراءات في أعقاب اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، حين وُصم سكان الكنابي بأنهم “جنجويد” ودعم سريع، رغم أن أبرز من أدخل الدعم السريع إلى الجزيرة هو ابن المنطقة نفسه: المدعو كيكل. لكن أحدًا لا يجرؤ على مساءلته، لا لشيء إلا لأنه من أبناء الجزيرة “الأصليين”، على حد زعمهم.

كل هذه المحاولات تهدف إلى محو التاريخ المشرف للعمال الزراعيين من سكان الكنابي ودورهم الطليعي في بناء السودان، رغم التضحيات الجسام. وكان آخر فصول هذا التاريخ مشهدهم المهيب في “موكب الجنقو – مسامير الأرض” ضمن اعتصام القيادة العامة، حيث صدحوا بصوتهم ضد الظلم والتمييز.

هؤلاء لا يطالبون بأكثر من حقوقهم المشروعة، فهم شركاء أصيلون في بناء هذا الوطن.

إننا نطالب الدولة السودانية اليوم أن ترفع يد التهميش والتمييز، وأن تبدأ بخطوات عملية لتخطيط قرى نموذجية تحفظ كرامة هؤلاء المواطنين، وتمنحهم ما يستحقون من فرص لحياة كريمة. أما أن تُتّخذ ضدهم مواقف إقصائية أو يُقال إنهم ليسوا سودانيين، فذلك تجنٍ على الحقيقة وتزوير فاضح للتاريخ، لا يمكن قبوله في سودان المستقبل.

في الختام:

لا يمكن بناء دولة حديثة دون إقامة العدل والمساواة بين جميع المواطنين في أبسط الحقوق والخدمات الأساسية. لقد تقدمت الدول من حولنا لأنها تخلّت عن التمييز، وآمنت أن لا نهضة بلا إنصاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى