مئوية مشروع الجزيرة : القلب النابض للسودان… ودور العمّال الزراعيين بعد مائة عام

مئوية مشروع الجزيرة: القلب النابض للسودان… ودور العمّال الزراعيين بعد مائة عام
اعداد الورقة من جعفر محمدين عابدين
الامين العام لمؤتمر الكنابي
gafertamok@gmail.com
26 يوليو 2025م
يمثّل مشروع الجزيرة، منذ تأسيسه قبل مائة عام، القلب النابض للاقتصاد السوداني، ومحورًا حيويًا للتنمية الزراعية والاجتماعية في البلاد.
وبينما نحتفل اليوم بمئوية هذا الصرح الزراعي العملاق، لا بد من التوقف عند حقيقة جوهرية: لا يمكن فهم تاريخ هذا المشروع أو استشراف مستقبله بمعزل عن الفلاحين والعمال الزراعيين الذين حملوه على أكتافهم، وخاصة أولئك القاطنين في “الكنابي”.
العمال والفلاحون: العمود الفقري المنسي
منذ بداياته، قام مشروع الجزيرة على سواعد العمال والفلاحين. هم من حرثوا الأرض، وغرسوا البذور، وجنوا المحاصيل، وواجهوا تقلبات المناخ والسياسات معًا. ورغم عقود من التضحيات، يعيش هؤلاء في ظل واقع مأساوي يتسم بانعدام الحقوق، وتدهور الأوضاع المعيشية، وتجاهل شبه تام من مؤسسات الدولة والمجتمع.
محاور الأزمة: تشريح واقع العمال الزراعيين في مشروع الجزيرة؟؟
- علاقات إنتاج غير عادلة
تم تأسيس المشروع على أساس توزيع الأراضي للمزارعين بحق انتفاع، بينما ظل العمال الزراعيون بلا أرض، وبالتالي بلا تمثيل قانوني أو حماية. وقد اضطر هؤلاء إلى العمل ضمن ثلاث صيغ:
نظام الشراكة: تقاسم الإنتاج مع المزارع بعد تنفيذ كامل العمليات الزراعية.
نظام الإيجار (الدقونتي): استئجار الأرض لموسم واحد، مع تحمّل كامل المخاطر.
نظام الأجرة اليومية: العمل بأجر زهيد وغياب أي استقرار مهني أو اجتماعي. - تهميش مؤسسي وقانوني
بينما يتمتع المزارعون بتمثيل رسمي (مثل عضوية مجلس إدارة المشروع بنسبة 40%)، لا يمتلك العمال الزراعيون أي صوت مؤسسي، مما يحرمهم من:
الحصول على التمويل الزراعي.
المشاركة في التخطيط واتخاذ القرار.
الحماية القانونية والتنظيم النقابي. - “الكنابي”: مساكن الهامش والحرمان
يعيش معظم هؤلاء العمال في “الكنابي”، وهي تجمعات سكنية هشة ومؤقتة، قائمة على أطراف قنوات الري، تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة: لا كهرباء، لا طرق معبّدة، ولا شبكات صرف صحي. - انعدام الخدمات الأساسية
المياه: يشرب السكان غالبًا من قنوات الري مباشرة.
الصحة والتعليم: الكنابي تفتقر إلى المدارس والمراكز الصحية.
التدريب والإرشاد الزراعي: لا يتلقى العمال أي تدريب أو توعية بمخاطر المبيدات أو السلامة الزراعية. - المواطنة المؤجلة
يُعامل كثير من سكان الكنابي كـ”وافدين” رغم استقرارهم التاريخي ومساهماتهم الممتدة، خصوصًا المنتمين إلى قوميات بعينها، حيث يُمارس ضدهم خطاب إقصائي وتمييزي يناقض مبدأ المواطنة المتساوية التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الحديثة.
ومن الجدير بالتأكيد أن هذا الخطاب لا يستند إلى تاريخ حقيقي، بل يتجاهل التواصل العميق الذي كان قائمًا بين مكونات هذا المجتمع حتى قبل تأسيس الدولة الحديثة. - غياب الدور السياسي والمدني
لم تبادر الأحزاب السياسية أو منظمات المجتمع المدني إلى احتضان قضايا هذه الفئة، لا عبر تبنّي برامج إصلاحية، ولا من خلال تنظيم العمال، أو تنفيذ مشاريع تنموية وخدمية في الكنابي.
نحو حل جذري ومستدام: رؤية للإصلاح
أولًا: الحلول الجذرية
تمليك الأراضي: منح العمال الزراعيين حق التمليك في توسعات المشروع، لتثبيت وضعهم كمزارعين لا كعمال فقط.
إنشاء قرى نموذجية: تحوّل الكنابي إلى بيئات مستقرة ومتكاملة الخدمات (كهرباء، صحة، تعليم، طرق، صرف صحي…).
ثانيًا: الحلول الإسعافية
الربط المؤسسي:
تمثيل العمال الزراعيين في هياكل إدارة المشاريع.
تأسيس نقابات أو أجسام تمثيلية تحفظ مصالحهم.
تحسين السكن:
تخطيط الكنابي كقرى رسمية معترف بها.في مساحات مملوكة للدولة
إنشاء صندوق وطني لدعم الإسكان بمساهمة الدولة، القطاع الخاص، والمنظمات.
دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني: - إطلاق برامج محو الأمية.
- تنظيم حملات توعية صحية وزراعية.
- دعم الطلاب من أبناء العمال.
- تنفيذ فعاليات ثقافية تعزز الاندماج والسلام الاجتماعي.
الإحصاء: نقطة البداية لأي إصلاح
تشير الإحصائيات الأولية (وفقًا لمركزية مؤتمر الكنابي) إلى وجود نحو 2095 كمبو في مشروع الجزيرة والمناقل، وهي أرقام تُبرز الحاجة إلى مسح شامل وتوثيق مؤسسي دقيق لوضع الأسس السليمة لأي تدخل تنموي أو حقوقي.
الخاتمة: إنصاف تاريخي واجتماعي مستحق
إن مئوية مشروع الجزيرة ليست لحظة للاحتفال بزراعة القطن أو القمح فقط، بل محطة للمراجعة الشاملة، لإعادة الاعتبار لمن حملوا هذا المشروع على أكتافهم لعقود دون أن يحصدوا سوى التهميش.
إعادة تأهيل مشروع الجزيرة تتطلب رؤية تنموية شاملة تضمن زيادة الإنتاج والإنتاجية، وترسّخ العدالة الاجتماعية، وتجعل من هذا المشروع بالفعل سلة غذاء السودان، لا مجرد ذكرى لماضٍ مجيد.