مقالات

الجميل الفاضل يكتب من نيالا : يوميات “البحير” (15)

الجميل الفاضل يكتب من نيالا:
يوميات “البحير” (15):
هنا، معركة بالعمق تجري داخل العقول (1)؟!

سبعون عامًا كدت أبلغها، ولم أعرف من السودان غير حروبه التي لا تنتهي، إلا لتبدأ في الوقيد، باسم شيطان القبيلة والعروبة، وبكل أوهام النقاء. 
هنا، لا يزال الزيت يُؤجّج نيران النزال إلى مزيد.
هكذا افتريناها حروبًا، حتى باسم الله، خالق الأحياء والأموات والقتلى، في مذابح “التطهير” لأعراق وأجناس، هو بالأصل خالقها ورازقها وموجدها، لكي تبقى على قيد الحياة.
يكبر كل قاتل منّا كذبًا، باسم الله، على رأس قتيله؛ من صف لصف، ومن قبيل لقبيل، سواءً بسواء، وافتراءً بافتراء.


على أية حال، فإن أسوأ ما فينا قد بات عيانًا، ماثلًا تحت سمع ومرأى العالمين. 
إن شرًّا ينبع منّا، ومن دواخلنا، هو ليس شرًّا من اختصاص الآخرين.
لكني أقول، وإلى يومنا هذا، كما قال شاعر من قبل: 
“سنكون يومًا ما نريدُ… 
لا الرحلةُ ابتدأت، ولا الدربُ انتهى. 
لم يبلُغِ الحكماءُ غربتَهم، 
كما لم يبلُغِ الغرباءُ حكمتَهم.”


بيد أن وعيًا صاعقًا سينفجر من داخل رؤوس الناس انفجارًا، وعيًا لا يتفتّق بهدوء كما تتفتح أكمام وردة.
إذ تقول قوانين الفيزياء إن الإلكترون الذي يبتعد عن نواة الذرة نحو المدار الأخير، يمكنه الانتقال بسهولة إلى ذرة ثانية، لا تقرّبه هي الأخرى من نواتها، ليجد نفسه تارة أخرى في مدار ذرة غيرها.


المهم فقد زجَّ جنرالاتٌ مؤدلجون البلادَ في أتون هذه الحرب، بعد أن استباحوا ذات صباح أسود من أكتوبر 2021، حمى الدولة، وحُرُمات الناس، وكافة حرياتهم وحقوقهم الآدمية، لأعوامٍ عجاف، قدموا خلالها أقصى ما يمكن تقديمه من فروض الولاء والطاعة للحركة الإسلامية، التي أذاقت السودانيين الأمرّين، قبل أن يثور هذا الشعب ضد حكمها المطلق الذي امتد لثلاثة عقود.


لينتج عن هذا الواقع معركةٌ بالعمق، تجري داخل العقول، بعد أن تكشفت كافة حِيَل المُخاتلة، ولعبة “التماوت” المصطنع، التي برع هذا التنظيم الماكر في ممارستها بمهارة عالية خلال أعوام ما عُرف بالفترة الانتقالية.
فالسودان، في عُرف هذه الجماعة، يعني وسط السودان لا أكثر ولا أقل، أو ما يُعرف بـ”مثلث حمدي”؛ وهو المصطلح الذي برز إلى حيّز الوجود من ورقة اقتصادية قدّمها أحد أبرز وزراء مالية “الإنقاذ” عبد الرحيم حمدي، الذي أشار فيها إلى ضرورة منح أولوية تنموية للمثلث الجغرافي الواقع بين دنقلا في الشمال، وسنار في الوسط، والأبيض في الغرب، معتبرًا أنها المناطق الأكثر ارتباطًا بالهوية العربية الإسلامية، وأنها الأبعد احتمالًا للانفصال عن مركز السلطة في الخرطوم.


حيث فرضت سلطة الإنقاذ، على ضوء هذا التصنيف، قوانين وسياسات تعبّر بالدرجة الأولى، عن ثقافات وعادات وتقاليد سكان هذا المثلث على بقية سكان البلاد.
مثل قوانين النظام العام، التي اكتشف المخلوع البشير في أواخر أيام حكمه أنها من محركات الثورة ضد نظامه، فأعلن إلغاء العمل بها.


وللحقيقة، فإن مفهوم حصر السودان في الشمال النيلي المسلم الناطق بالعربية، ليس اختراعًا إخوانيًا بحتًا، بل هو امتداد طبيعي لتركة السياسات التي خلفها الاستعمار الإنجليزي، أو التركي- المصري، الذي ركّز كافة مشاريعه التنموية الزراعية والصناعية في مناطق الشمال والوسط النيلي، ومن أهمها بالطبع مشروع الجزيرة.
فضلًا عن تركيزه فرص الاستيعاب في وظائف الدولة للحفاظ على مصالح هذه الجهات نفسها، من خلال الاقتصار على تعيين متعلمين من ذات هذه المناطق للاضطلاع بالمهام الإدارية الضرورية.

 
إضافة لبناء جيش عُرف في البداية بـ”قوة دفاع السودان”، ليقوم بحراسة وحماية هذه المصالح ذاتها.
بل إن “قوة دفاع السودان”، التي كانت جزءًا من الذراع العسكري للمستعمر، لم يطرأ عليها أي تطوير يذكر تتجاوز به دولة ما بعد الاستعمار، لتواكب مرحلة ما بعد الاستقلال.
وبالتالي، فإن الطبيعة الاستعمارية لهذه القوات لم تتغير قيد أنملة إلى يومنا هذا، وللحقيقة فإنه لا يعرف لهذا الجيش دور سوي في واحد من حالتين، الأولي عندما ينقلب علي سلطة شرعية منتخبة جاءت عبر صناديق الاقتراع، والثانية عندما يصوب بنادقه الي صدور أبناء شعبه في حروب أهلية داخلية.


ليصبح، من ثم، هذا الجيش، مجرد مظهر لتغيير شكلي في المسميات، لا يخدم أغلبية السودانيين، إن لم يكن مجرد استمرار وجوده علي ما هو عليه من إرث وتربية وعقيدة، وبالا وخصما علي أمن واستقرار البلاد، إذ أنه جيش صممه الاستعمار في الحقيقة لغرض واحد فقط هو قمع هذا الشعب، وحراسة وتسهيل مهام نهب موارده وثرواته.
هذا الغرض الذي ظلت تدور في فلكه هذه القوات، بل ولم تستطع الانعتاق عنه إلى يوم الناس هذا.
-يتواصل-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى