الهادي الشواف .. الحراك الثقافي.. وعملية التغيير

الهادي الشواف
لا شك، ان للحراك الثقافي دور اساسي في عملية التغيير والتحول في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، فالحراك الثقافي يترجم جهد الإنسان الخلاق المنبعث من الاحساس والشعور بالمعاناة اليومية، والثقافة هي المعمل الذي تحدث فيه التفاعلات، وتتخلق وتتجانس، وتنسجم وتتعتق، لتنتج فكر انساني، معبر عن وجدان وتطلعات المجتمع في حياة كريمة، ورغبته المستمرة في النهوض التطور، وهي بالتالي أي الثقافة، فكر، وفن، وأدب، وشعر، ومسرح، وقصة، ورواية، وتشكيل، وشتى العلوم، والمعارف، والسلوكيات، التي ينتجها ويتعامل معها وبها الانسان، تشكل التعبير الذهني، والعقلي عن الحراك الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، بل هي الراصد الدقيق لكل انفعالات وتفاعالات المجتمع، ومواكبة لجميع ازماته وانجازاته، ومختزنة آماله وطموحاته، فالثقافة ليست ترفاً ذهنياً، أو رياضة عقلية، أو ذلك الفعل الذي يسمو ويترفع على الصراع، فيختلق حدوداً وهمية، وسدوداً متخيلة تفصل بينه وبين ما يحيط بالمجتمع من صرعات وازمات وتناقضات.
وقال عنها مالك بن نبي في كتابه مشكلة الثقافة بأنها “مجموعة الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد، منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربطه بأسلوب الحياة في الوسط الذي يعيش فيه”.
وتاريخيا لعبت الثقافة من خلال الالتزام بقضايا وهموم الشعب، لعبت ادوار تاريخية في الانتقال بالشعوب من حالة التخلف والانحطاط، إلى آفاق التطور والتقدم، وذلك عبر الالتحام بالمجتمع والتعايش معه والاحساس بنبضه، والتعبير عن ذلك فناً، وشعراً، وقصةً وروايةً، ولوحةً، وغيرها من أشكل التعبير الثقافي ذات التأثير الكبير في عملية التغيير والتحول الديمقراطي، وسجل التاريخ اسماء ملكت وجدان شعوبها، حملوا مشاعل الثقافة في بناء مجتمعاتهم، ووقفوا جنباً إلى جنب مع شعوبهم، وذهبوا معهم خطوة بخطوة حتى بلغوا المجد.
ان الفعل الثقافي الذي يواكب الحدث ويجسده، لهو جدير بالاحترام والتقدير، ومن هنا يأتي الالتزام بقضايا المجتمع، ليعطي الثقافة مضمونها، ويعزز دورها في حياة الناس، وتصبح الثقافة تقود المجتمع عن جداً وليس زيفاً وتزويراً، وأكثر من ذلك إذ بهذا الالتزام تكسب الثقافة كينونتها، وتفتح الطريق مسارات جديد لعملية التغيير، من خلال ما تقدمه من مضمون يعبر عن المجتمع، ويعكس همومه وأحلامه.
والتاريخ سجل على الامام ابو حامد الغزالي ليس لانه كتب عن “تهافت الفلاسفة” بل لانه كان يبحث ويكتب عن “كمياء السعادة” في حين كانت الجحافل الصليبية على ابواب القدس، كما ان هنالك عدد من المثقفيين والمفكريين سقطوا من ذاكرة مجتمعاتهم، لا لقلة معرفتهم ولا لعدم قدرتهم على التعاطي مع الفكر، ولكن لأنهم لم يعبروا عن واقع حال المجتمع، في زمن كان المجتمع في أشد الحاجة إلى جهدهم الفكري والثقافي، فاذا عجز المثقف على ان يمثل الرئة الثالثة للمجتمع في زمن الازمات فعلى الثقافة والمجتمع السلام.
نقول هذا الكلام يقيناً منا، بأن الفعل الثقافي لم يرتقي إلى مستوى الحدث، الذي يهدد الوطن المتمثل في المعاناة التى يعشها المواطن في المعيشة وارتفاع اسعار المواد الاساسية، والرسوم الدراسية، والفساد الذي ضرب الدولة والمجتمع، والظلم وغياب الحريات نتيجة للسلطة المتحكمة في كل شي، والحرب التي قتلت، وشردت زمرة من ابناء الوطن، ووعطلت الزرع وجففت الضرع، ذلك لان الفعل الثقافي افتقد الاحساس بالالتزام بقضايا المجتمع، وتحسس نبض المجتمع، واوجاعه وآلامه، وطموحاته، واشواقه، وأحلامه، في الأمن، والسلام، والأستقرار، والحرية، والانعتاق، والكرامة الأنسانية.
وكما ان الديمقراطية لا تتحقق الا بوجود ديمقراطيين، كذلك الثقافة والفعل الثقافي لا يستطيع ان يطلع بدوره في المجتمع، الا بوجود المثقفين الحقيقيين المسلحيين بقدر وافر من الوعي، والممتلكين للإرادة والعزيمة، والمحصنين من الاستلاب والتبعية، والمؤمنين بأن الحراك الثقافي ضروري لأي مجتمع ينشد التغيير والتحول الديمقراطي.
ويمكن القول بأن أي حراك ثقافي بدون أدراك واعي لابعاد عملية التغيير، وما يترتب عليها من تبعيات، قد يؤدي إلى انحرف مشروع التغيير عن مساره الصحيح، مما يتسبب في جلب المزيد من المتاعب التعقيدات، وقد تعصف بمصير ومستقبل المجتمع، والامثلة كثيرة من حولنا حيث ادى التغيير غير المدروس إلى ترك عدد من بلدان الربيع العربي في فوضة لا حدود لها، وقد اضحت مسرحاً للنهب والتطرف والارهاب والاقتتال المجاني.
وعليه فان أي حراك يستهدف عملية تغيير حقيقة، لا بد له من مشروع فكري مصاحب يدرك شروط وابعاد عملية التغيير وماهيته، وأدواته، ويكون لديه القدرة على استقطاب الشارع لفكرة التغيير السلمي الإجابي، مع امكانية تقديم البدائل في الزمان والمكان المناسبين، وهذه البدائل لا تتأتى الا من خلال اعمال الفكر المصاحب للحراك القافي، وذلك بوجود المفكر الذي لدية القدرة على قراءة الواقع واستلهام افكار تكشف المكانزيمات الداخلية لفعل التغيير، مما يؤهله لتقديم افكار جديدة متماسكة، أو انتاج منظومة افكار تقف خلفها كتلة قادرة على الدفاع عنها، أو مشروع رؤية راسخة وطيدة لديها القدرة على الصمود امام الانحرافات.
فعملية التفكير المصاحبة للحراك الثقافي من أجل التغيير، حسب بعض المناهج المجربة لا بد لها من الاعتماد على خمسة مراحل أساسية، وهي (الوصف، والتفسير، والقرار، والتخطيط، والتنفيذ)، ومن ثم لا بد من الركون إلى خطة مركزية وخطط أخرى بديلة يتم الرجوع اليها متى ما واجهت الخطة المركزية أي عقبات.
نريد ان نقول اختصارا، ان البلاد تتعرض لعدة ازمات متلاحقة، تحدد كيانها ووجودها، وقد تعرض المجتمع للظلم والفساد وحرب قتلت ودمرت كل شيء، ومازالت الاحوال تزداد سوءً كل يوم، وعلى الرغم من ذلك فأن الحراك الثقافي لم يرتفع إلى مستوى هذه المعانة، وفي احياناً كثيرة يكون الحراك الثقافي مغرداً خارج السرب ومناقضاً لما يحدث في المجتمع.
والمطلوب مقدماً هو اعادة توجيه الحراك الثقافي ليطلع بدوره في عملية التغيير، وذلك عبر صعود مثقفين حقيقين يقودون قطار الحركة الثقافية، للمساههة في ايقاف الحرب وبناء السلام، وانجاز التحول المدني الديمقراطي.




