أخبار

الهادي الشواف .. صناعة السلام المستدام في السودان رؤية لحل جذري لمسألة الحرب(3)



تتتبع هذه الرؤية في حلقات جذور النزاع المسلح في السودان، وتطرح رؤية استراتيجية لصناعة سلام مستدام لا يقتصر على وقف إطلاق النار، بل تحاول ان تطرح معالجة أولية للبنية السياسية والاجتماعية التي أنتجت الحرب، وفي هذا الاتجاه تستند إلى تحليل الواقع السوداني، وتتبنى مقترحات عملية لبناء عقد اجتماعي جديد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلية.

في هذا المقال نحاول تسلّيط الضوء على دور العدالة الانتقالية باعتبارها جسر للعبور إلى السلام المستدام وتحقيق المصالحة، كجزء من فهم أعمق لأسباب الأزمة المستمرة.
العدالة الانتقالية الشاملة في السودان..

جسر نحو السلام والمصالحة:
في بلدٍ مثقلٍ بالانقلابات، والحروب، والانتهاكات، لا يمكن الحديث عن سلام مستدام دون مواجهة الماضي، فالسودان لا يعاني فقط من أزمة سياسية، بل من جراح مفتوحة لم تُعالج، وذاكرة جماعية مثقلة بالظلم والإفلات من العقاب، والتهميش، في هذا السياق لم يكن طرح مسألة العدالة الانتقالية رفاهية قانونية، بل ضرورة أخلاقية وسياسية لإعادة بناء الثقة، وتكريس المصالحة، ومحاسبة الجناة ومرتكبي الانتهاكات، والتعويض ورفع الضرر، ومنع تكرار الانتهاكات.


وعليه نتطلع لتصميم نموذج لعدالة انتقالية بطريقة تلبي اشتراطات واقع الازمة في السودان، ويخاطب طبيعتها الوحشية، التي اسفرت عن آلاف الضحايا الذين لم يتم انصافهم، ولم يتم محاسبة الجهات المسؤولة عن القتل، والاغتصاب، والتعذيب، والتهجير، ولأن الإفلات من العقاب يُغذّي ثقافة العنف، ويُشجّع على تكرار الجرائم، ولأن السلام الحقيقي لا يُبنى على النسيان، بل على الاعتراف، والمحاسبة، وجبر الضرر.


ومن أهم ملامح العدالة الانتقالية الشاملة، المساءلة القانونية عبر إنشاء هيئة مستقلة تُحقق في الجرائم والانتهاكات، وتُحيل المسؤولين إلى القضاء، دون انتقائية أو حماية أو تسويات سياسية تُفرغ العدالة من مضمونها، وايضا جبر الضرر وتعويض الضحايا ماديًا ومعنويًا، واضف إلى ذلك ضرورة الاعتراف الرسمي بما تعرضوا له من جرائم وانتهاكات، ومن ثم يجب تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم ولأسرهم، بالإضافة إلى كشف الحقيقة من خلال توثيق الانتهاكات، وسرد الروايات المختلفة، وإتاحة المعلومات للناس، لكسر الصمت، وتحرير الذاكرة الجماعية من التزييف. والعمل بشكل جاد على الإصلاح المؤسسي، وتفكيك الأجهزة التي تورّطت في الانتهاكات، وإعادة بناء مؤسسات الأمن والقضاء على أسس مهنية ومستقلة ومحايدة وخاضعة للرقابة المدنية، وايضا يجب التركيز على المصالحة المجتمعية عبر إطلاق حوارات محلية ووطنية بين المجتمعات المتضررة، لكشف الحقائق وتُعزز التفاهم، والعمل على اعادة بناء الروابط والوشائج الاجتماعية، وتكريس ثقافة التسامح.


صحيح ان مسألة العدالة الانتقالية قد تواجه العديد من التحديات، مثل غياب الإرادة السياسية، والضعف البنيوي للمؤسسات خاصة مؤسسات العدالة، بالإضافة إلى تعدد مراكز القوة وصناعة القرار، وتمثل استمرار الحرب أكبر تحدي وعقبة امام عملية العدالة الانتقالية، لكن رغم عن كل التحديات يجب الاقرار بأهمية العدالة الانتقالية، لأنها تمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس أخلاقية، وتعزيز المواطنة المتساوية دون تميز، واعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها خاصة المؤسسات العدلية، وهذا كله وغيره يمهد الطريق للسير تجاه تحول مدني ديمقراطي حقيقي.


خلاصة القول، ان العدالة الانتقالية لا تهدف إلى الانتقام أو التشفي من مرتكبي وجرائم الحرب، بقدر ما تعتبر وسيلة فعالة لإنصاف الضحايا وتحقيق العدالة، كما انها بشكل أو بأخر تستهدف تحريرٌ للمستقبل من أسر الماضي، كما إنها تعتبر جسرٌ بين الألم والأمل، بين الجراح والشفاء، بين الانقسام والوحدة، بين التشظي والالتهام، فالسودان لن يتعافى ما لم يُنصف ضحاياه، ويُحاسب جلاديه، ويُعيد بناء دولته على أساس العدالة، لا التسويات وحماية المجرمين ومرتكبي الفظائع، فالمصالحة لا تُفرض، بل تُبنى على الحقيقة والمصالحة، والاعتراف، والإنصاف.


إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق والمحاسبة.. خطوة أولى نحو العدالة في السودان:
في السودان، لم تكن الجرائم والانتهاكات مجرد أحداث عابرة، بل كانت جزءًا من نمط ممنهج استمر لعقود، من دارفور إلى الخرطوم، ومن المعتقلات والشوارع والمواكب وفض الاعتصامات إلى ساحات القتال، ومع كل موجة عنف، واستمرار الدائرة الشريرة للعنف والعنف المضاد، وعملية انتاج العنف المستمرة منذ بداية تكون الدولة السودانية، يسقط الضحايا، وفي ظل كل هذا العنف وكل هذا الوقت ويظل السؤال معلقًا، من يُحاسب؟ ومن يكشف الحقيقة؟ ومن يُنصف الضحايا؟ والإجابة تبدأ بإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق والمحاسبة، تُعيد الاعتبار للعدالة، وتُكرّس ثقافة المحاسبة، وتُمهّد الطريق لمصالحة حقيقية.


لماذا هيئة مستقلة؟

ببساطة لأن القضاء السوداني، في صورته الحالية، غير مؤهل للعب هذا الدور، لأنه يفتقر إلى الاستقلالية والحيادية، وغالبًا ما يخضع للسلطة السياسية المسيطرة أو العسكرية القابضة، وايضًا انتشار السلاح، وتعدد حاملي السلاح، وتعدد صاني القرار، يقطع الطريق امام أي محاولة للاستقلالية والحياد، ولأن الضحايا فقدوا الثقة في مؤسسات الدولة، ويحتاجون إلى جهة محايدة تُنصفهم، ولأن العدالة الانتقالية لا تُبنى على التسويات، وحماية الجناة، بل على التحقيق والمحاسبة الشفافة، والعقاب ورفع الضرر.


ومن ابرز ملامح الهيئة المستقلة: ان تكون هيئة مستقلة تمامًا، بحيث تكون مستقلة عن السلطة التنفيذية والعسكرية، وتُشكّل من قضاة وخبراء حقوقيين مشهود لهم بالنزاهة، ويُشرف عليها مجلس مدني منتخب أو توافق عليه القوى المجتمعية، ويجب ان تنهض الهيئة على صلاحيات واسعة، تمكنها من الوصول إلى الوثائق، واستدعاء المسؤولين، وحماية الشهود، وإحالة القضايا إلى محاكم وطنية أو دولية عند الضرورة، ايضا عملية التحقيق يجب ان تكون شاملة لا تُستثنى أي جهة أو فترة زمنية، وأن يتم التحقيق في كل الانتهاكات: القتل، التعذيب، الاغتصاب، التهجير، والفساد، وغيرها، سواء ارتكبتها الدولة أو الميليشيات أو الحركات المسلحة، أو أي جهة أخرى تحمل السلاح أو تمتلك عناصر القوة، ويجب ان تكون الشفافية متوفرة اثناء الإجراءات، مع الحرص على نشر التقارير الدورية، وإتاحة المعلومات للرأي العام، لضمان الشفافية، والثقة والمساءلة المجتمعية، ومن الأهمية بمكان ان يتم ربط الهيئة بعملية العدالة الانتقالية، لتكون جزءًا من منظومة أوسع تشمل جبر الضرر، وكشف الحقيقة، والإصلاح المؤسسي، لضمان عدم تكرار الانتهاكات.


خلاصة القول هو أن إنشاء هيئة مستقلة للتحقيق والمحاسبة ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو خطوة أخلاقية وسياسية نحو بناء دولة تحترم الإنسان، وتُكرّس العدالة، وتُعيد الثقة في القانون، السودان لن يتعافى ما لم يُحاسب من أجرم، ويُنصف من ظُلم، ويُبنى على أساس الحقيقة لا الإنكار، فالعدالة ليست انتقامًا، بل شرط للسلام العادل والمستدام.


برامج المصالحة المجتمعية وجبر الضرر.. طريق السودان نحو الشفاء الوطني:
في السودان، لم تكن الحرب مجرد صراع سياسي، بل كانت تجربة جماعية من الألم، والتهجير، والانتهاكات، والتفكك الاجتماعي، وبينما تتجه الأنظار نحو وقف إطلاق النار والتسويات السياسية، يبقى السؤال الأهم: كيف نُعيد ترميم النسيج المجتمعي؟ الجواب يبدأ بـ برامج المصالحة المجتمعية وجبر الضرر، التي تُعيد الاعتبار للضحايا، وتُرمّم العلاقات، وتُمهّد لسلام حقيقي لا يُبنى على النسيان.


تأتي أهمية المصالحة المجتمعية وجبر الضرر كمدخل نحو الشفاء والتعافي من جراح الحرب، نسبة لأن هناك آلاف الأسر فقدت أحبّاءها، وتعرّضت للتهجير، والاغتصاب، والتعذيب، والصدمات النفسية، دون اعتراف أو إنصاف، أو تطبيب، ولأن المجتمعات المحلية تعيش في حالة من الانقسام، والشك، والعداء، نتيجة تراكمات الحرب والعنف، والانتهاكات والجرائم، ولأن السلام لا يُبنى فقط بين الأطراف السياسية، بل بين الناس أنفسهم، في المجتمعات المحلية المتأثرة بالحرب في القرى والمدن والمخيمات.


تنهض عملية المصالحة المجتمعية وجبر الضرر على عدة مكونات، نذكر منها الاعتراف الرسمي بالانتهاكات والجرائم، وإصدار بيانات حكومية ومجتمعية تُقرّ بما حدث، وتُعترف بالضحايا، وتُدين الجرائم، كخطوة أولية نحو الشفاء والتعافي، وحصر الضحايا والمتضررين، وتقديم تعويضات مادية ومعنوية للأفراد والأسر المتضررة، تشمل التمويل والدعم المالي، والعلاج، والسكن، والتعليم، وفرص العمل.. الخ، ودعم الصحة النفسية من خلال إنشاء مراكز علاج نفسي واجتماعي في المناطق المتأثرة والمتضررة، وتقديم خدمات مجانية للناجين من العنف، خاصة النساء والأطفال والشيوخ، وبشكل موازي لكل هذا لا بد من اجراء حوارات مجتمعية محلية، عبر تنظيم سلسلة من جلسات الحوار بين المجتمعات المتنازعة، تُشرف عليها جهات محايدة مختصة، تُركّز على الاستماع، والاعتراف، والتسامح، وبناء الثقة.


وكذلك جعل صور المجازر، والجرائم، والانتهاكات، حية في الذاكرة الجمعية للمجتمع، حتى تحصنه من الارتداد والعودة إلى الحرب مرة أخرى، عبر إحياء الذاكرة الجماعية لجرائم وانتهاكات الحرب، من خلال إنشاء المتاحف، والنصب التذكارية، ووضع مناهج تعليمية تُوثّق لما حدث، وتُكرّس ثقافة “لن يتكرر”، وتُعلّم الأجيال القادمة معنى العدالة، وأهمية السلام والتعايش السلمي، وايضا العمل على تمكين الضحايا في الحياة العامة، عبر إشراك الناجين والضحايا في صياغة السياسات، وتمثيلهم في المجالس المحلية والوطنية، وصناعة القرار، لضمان أن صوتهم لا يُهمّش مرة أخرى.


رغم صعوبة السياق العام، مع وجود عدد من التحديات، متمثلة في عقلية الافلات من العقاب، والهروب من المحاسبة، ومحاولات حماية الجناة، وتذويب القضايا، واخفاء الأثار والادلة، وغيرها من التحديات الا أن هناك فرص واسعة ممكن تؤسس لعدالة ومصالحة مجتمعية وجبر الضرر والتعويض، فنجد إن المجتمعات السودانية تمتلك إرثًا غنيًا من آليات المصالحة التقليدية، مثل الجودية، والمجالس الأهلية، التي يمكن تطويرها ضمن إطار وطني حديث، كما أن وجود منظمات مدنية نشطة، وشباب واعٍ، يُشكّل فرصة حقيقية لبناء برامج فعّالة تُلامس الواقع.


برامج المصالحة المجتمعية وجبر الضرر ليست ترفًا إنسانيًا، بل شرطٌ أساسيٌ لبناء سلام مستدام، فالسودان لن يتعافى ما لم يُنصف ضحاياه، ويُرمّم علاقاته الاجتماعية، ويُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، فالمصالحة لا تعني النسيان، بل الاعتراف، وكشف الحقيقة والإنصاف، والبناء والتعايش المشترك على أساس الحقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى