الهادي الشواف .. صناعة السلام المستدام في السودان رؤية لحل جذري لمسألة الحرب – (5)

ثانيًا: بناء مؤسسات مدنية قوية:
تتتبع هذه الرؤية في حلقات جذور النزاع المسلح في السودان، وتطرح رؤية استراتيجية لصناعة سلام مستدام لا يقتصر على وقف إطلاق النار، بل تسعة لمعالجة البنية السياسية والاجتماعية التي أنتجت الحرب، وتستند إلى تحليل الواقع السوداني، وتتبنى مقترحات عملية لبناء عقد اجتماعي جديد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلية، في هذا المقال نواصل سردية بناء مؤسسات مدنية قوية كمدخل لحل جذري لمسألة الحرب في السودان، وسوف نتطرق لقضية احتكار السلطة والثروة من قبل فئة اجتماعية محدودة، في مقابل تهميش طيف عريض من ابناء البلاد، ومعالجة مسألة تميكن المجتمعات المحلية ودعم المبادرات الشعبية، كجزء من فهم أعمق لمعرفة أسباب الأزمة المستمرة وايجاد طرق لحلها.
احتكار السلطة والثروة من قبل فئة اجتماعية محددة.. جوهر الأزمة السودانية
في أي بلد يحترم حقوق المواطنة المتساوية دون تميز، تُقاس المسافة بين المواطن والدولة لا بالكيلومترات، بل بدرجة تموضعه في خارطة التنمية المتوازنة، وموقعه من خارطة المشاركة والاختيار، فمنذ استقلال السودان وحتى الأن، ظلت البلاد اسيرة لسيطرة الحكومات الدكتاتورية المتسلطة، مع سنوات قليلة من اشراقات الانظمة الديمقراطية، وعلى اثر ذلك تشكّلت الدولة على نموذج مركزي يُركّز السلطة والثروة في العاصمة والمناطق المحيطة بها، بينما تُغيب التنمية عن الأقاليم البعيدة، سياسيًا، اقتصاديًا، وخدميًا، هذا الوضع لم يكن عابرًا أو مؤقتًا، بل كان ممنهجًا ويعبر عن مركزية السلطة والدولة، وغياب التنمية المتوازنة، هذا الوضع المختل أدى إلى شعور عميق بالظلم والتهميش، وولّد حركات احتجاجية ومسلحة، وأعاد إنتاج العنف في صور متعددة.
هناك فئات اجتماعية معينة جمعتها مصالح مشتركة مع بعض قيادات المؤسسة العسكرية، انتجت تحالف جمع الرأسمالية الطفيلية ومجموعة من الانتهازين والوصوليين والعسكر، ظلوا يسطرون على السلطة الثروة، بينما حُرمت معظم الفئات الاخرى وبعض الأقاليم من التمثيل الحقيقي في السلطة والثروة ودوائر صنع القرار، سعت هذه الفئات المتحالفة على تغيب متعمد للتنمية المتوازنة وركزت الخدمات على خلتها في العاصمة وبعض المدن الكبرى، رغم ان معظم الثروة والموارد الطبيعية (الذهب، النفط، الزراعة) تُستخرج من الأقاليم، تُحوّل جميع عائداتها إلى مركز السلطة، دون استثمار حقيقي في البنية التحتية أو الخدمات في مناطق الإنتاج، حيث نجد ان معظم الخدمات والتنمية مثل الخدمات الصحية والتعليمية تتركّز في العاصمة والمدن الكبرى، كما ذمرنا من قبل، بينما تعاني المناطق الطرفية من الإهمال، ما يُكرّس الفجوة التنموية ويُغذّي الشعور بالظلم.
كما ان الراصد لمستويات التمثيل الإعلامي والثقافي يجد ان السلطة المركزية تهيمن على الإعلام الرسمي والسياسات الثقافية والمناهج التعليمية، مما يُقصي المجموعات المحلية الاخرى، ويهضم حقها في التمثيل العادل في جميع مؤسسات الدولة، وبالتالي يغذي احساسهم بالتهميش ويُضعف شعورهم بالانتماء الوطني، ويُعزز الشعور بالاغتراب، فالمواطن في الأطراف لا يرى الدولة راعية لحقوقه، وغالبًا ما يشعر بأنها لا تمثّله بل يعتبرها قوة مركزية إقصائية، مما يُضعف الولاء الوطني ويُعزز الانتماءات القبلية والجهوية.
ومن النتائج المباشرة المترتبة على هذه السيطرة والهيمنة، والاهمال المتعمد للأطراف وغياب التنمية المتوازنة، ذهاب البعض إلى حمل السلاح واشعال الحروب الأهلية، كما حدث في دارفور، النيل الأزرق، وجبال النوبة، رغم تغييّر الحكومات عبر انتفاضات شعبية، ثم انقلابات عسكرية في حلقة مستمرة منذ الاستقلال، الا انه بقي النموذج المركزي القابض قائمًا، مما يُعيد إنتاج دورة العنف وأسباب التمرد والصراع.
ويبقى أحد الحلول المطروحة هو تفكيك هذا النموذج المركزي وبناء دولة لا مركزية عادلة، من خلال إعادة توزيع السلطة عبر نظام فيدرالي أو لا مركزي، يمنح الأقاليم صلاحيات حقيقية في التشريع والإدارة عبر تفعيل المجالس المحلية، وتعزيز المشاركة السياسية، وتوزيع عادل للثروة عبر قوانين تُلزم الدولة بإعادة استثمار جزء من عائدات الموارد في مناطق الإنتاج، فضلًا عن تمثيل متوازن في مؤسسات الدولة يضمن مشاركة كل الأقاليم في صنع القرار، واحداث تنمية محلية يقودها السكان عبر دعم المبادرات المجتمعية، وتمويل مشاريع تنموية تُدار محليًا، وتُراعي خصوصية كل منطقة، ويُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمعات المحلية، بالإضافة إلى إصلاح إعلامي وثقافي واسع يُعكس فيه التنوع السوداني، وتُحتفى فيه بالمجموعات المحلية ضمن إطار وطني جامع.
احتكار السلطة والثروة من قبل شريحة اجتماعية محدودة، مع وجود دولة مركزية قابضة وغياب تام للعدالة الاجتماعية، من طبيعي انه ينتج نظام سياسي واقتصادي معطوب يُؤدي إلى الاحساس بالتهميش والظلم، وبالتالي يكون زريعة لإنتاج العنف والعنف المضاد، ولا يمكن الحديث عن استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، وبناء دولة عادلة وصناعة سلام مستدام، دون معالجة بنيوية لأسباب الصراع، وتفكيك نموذج الدولة المركزية القابضة، لصالح دولة لا مركزية تراعي خصوصية بعض المناطق، وتتبع التميز الايجابي في مسألة المشاركة ومشاريع التنمية، وإعادة بناء الدولة على أساس العدالة، والمشاركة، والاعتراف المتبادل، وإنصاف حقيقي للمناطق الطرفية، وإعادة توزيع السلطة والثروة، وإشراك الجميع في صياغة مستقبل السودان.
تمكين المجتمعات المحلية في السودان.. من التهميش إلى القيادة:
لطالما كانت المجتمعات المحلية ضحية لسياسات مركزية تُقصيها من صنع القرار، وتُهمّش دورها في التنمية، وتُعاملها كمجرد متلقٍ للخدمات لا كشريك في صياغة المستقبل، هذا النموذج لم يُنتج سوى الفقر، والاحتجاج، والاغتراب، خاصة في الأقاليم التي تعاني من ضعف البنية التحتية، وانعدام الخدمات، وغياب التمثيل السياسي، لذا، فإن تمكين المجتمعات المحلية هو خطوة جوهرية نحو بناء دولة عادلة، تشاركية، ومستدامة.
المركزية المفرطة تُقصي السكان من إدارة شؤونهم، وتُضعف الاستجابة للاحتياجات المحلية، رغم أن المجتمعات المحلية هي الاكثر دراية بمشاكلها وتمتلك معرفة دقيقة بواقعها، وولها القدرة على التشخيص السليم وتستطيع تقديم حلول أكثر فاعلية، فقط يحتاجون للتمكين والتدريب والتأهيل، هذا التمكين يجعلهم يحسون بالمشاركة على الاقل في ادرة شئونهم ويُعزز الانتماء الوطني، ويُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.
والطريق لتفعيل وتمكين المجتمعات المحلية، يمر عبر توسيع صلاحيات الحكم المحلي، ومنح المجالس المحلية صلاحيات حقيقية في التخطيط، والميزانية، والتنفيذ، بعيدًا عن وصاية المركز، ودعم المبادرات المجتمعية المحلية، وتمويل المشاريع التي تُبادر بها المجتمعات المحلية، خاصة في المجالات التنموية، مثل التعليم والصحة والزراعة والمياه والثقافة، مع إشراك السكان المحليين في إدارتها، بالإضافة إلى ذلك الاهتمام بناء قدرات القيادات المحلية، من خلال تدريب القيادات المجتمعية على بناء وصناعة السلام، والإدارة والمحاسبة، والتخطيط، لضمان فاعلية الأداء واستدامة المبادرات، وتعزيز إشراك النساء والشباب في مواقع القيادة والتخطيط وصنع القرار، ومع العمل على تجذير مفاهيم الرقابة والشفافية والمساءلة والمحاسبة، وإنشاء آليات رقابة محلية، تُتيح للمواطنين متابعة أداء المجالس، وتقديم الشكاوى، والمشاركة في التقييم.
اذا نجحنا في الذهاب في هذا الاتجاه يمكننا حصد العديد من الفوائد المتوقعة، منها تحسين الخدمات الأساسية وفقًا لأولويات السكان المحليين، رفع سقف مشاركة المجتمعات المحلية في السلطة ومواقع اتخاذ القرار، وتقليل النزاعات عبر تعزيز الحوار المحلي البناء، بالإضافة إلى خلق فرص عمل وتنمية اقتصادية محلية تلبي احتياجات السكان المحليين، مما يؤدي إلى تعزيز الهوية الوطنية من خلال المشاركة الفاعلة.
أن تمكين المجتمعات المحلية ليس مجرد إصلاح إداري، بل هو تحوّل في فلسفة الحكم، يُعيد السلطة إلى الناس، ويُكرّس العدالة، ويُمهّد لبناء وطن يُدار من القاعدة إلى القمة، السودان لن يتعافى ما لم تُمنح المجتمعات حقها في القيادة، والمشاركة، وصياغة مستقبلها.
دعم المبادرات الشعبية في مناطق النزاع.. من الاحتياج إلى المبادرة:
لقد ارتبط العمل التنموي على قلته بالمراكز والمدن، حيث تُصاغ السياسات وتُنفّذ المشاريع من أعلى، دون إشراك فعلي للمجتمعات المحلية أصحاب المصلحة الحقيقية، ولكن التجربة أثبتت أن المشاريع التي يقودها السكان بأنفسهم أكثر استدامة وفاعلية، لأنها تنبع من واقعهم، وتُدار بروح المشاركة، وتُراعي خصوصياتهم، ولأنها تُنتج حلولًا محلية أكثر فاعلية واستدامة، ومع ذلك، فإن غياب التمويل والدعم المؤسسي يُعيق هذه المبادرات، ويُفرّغها من قدرتها على التوسع والتأثير، لذا، فإن تمويل المشاريع التنموية بقيادة السكان هو خطوة استراتيجية نحو تنمية عادلة وشاملة.
ظلت مناطق النزاعات المسلحة ضحية للتهميش التنموي، والعنف، والانقطاع عن الدولة المركزية، ومع ذلك، ورغم الظروف القاسية، نشأت فيها مبادرات شعبية محلية تُعبّر عن إرادة الحياة، والتضامن، وإعادة البناء، من لجان السلام الأهلي، إلى مشاريع التعليم المجتمعي، إلى شبكات النساء في دارفور والنيل الأزرق، أثبتت هذه المبادرات أنها قادرة على إحداث فرق حقيقي، لكن غياب الدعم الرسمي والتمويل المستدام يُهدد استمراريتها، لذا، فإن دعم المبادرات الشعبية في مناطق النزاع هو خطوة استراتيجية نحو بناء سلام من القاعدة إلى القمة.
تنبع أهمية المبادرات الشعبية، من انها تُعبّر عن احتياجات المجتمعات المحلية الحقيقية، لأنها نتيجة تشخيص للمشكلات التي تخص ذات المجتمعات، وتدار وتنفذ من داخل المجتمعات نفسها، ولان المجتمعات المحلية هي الاكثر قدرة على التعبير عن قضاياها، وفضلا عن ذلك لأن مثل هذه المبادرات المحلية تسهم في تعزيز الثقة بين افراد المجتمعات المحلية وبينهم والدولة، وتُرمّم العلاقات الاجتماعية كمدخل للتعايش السلمي، وتُعيد بناء النسيج المجتمعي، وفوق هذا وذاك فان هذه المبادرات الشعبية تقدّم حلولًا عملية في غياب الدولة، وتُثبت قدرة المجتمعات المحلية على التنظيم الذاتي والابتكار الخلاق.
لذا فان مثل هذه المبادرات الشعبية الفعالة تستحق الدعم والمساندة، لنقل هذه المجتمعات من الهامش إلى قلب مشاريع بناء السلام العادل والمستدام، فالمدخل العملي لدعم هذه المبادرات بفعالية هو الاعتراف الرسمي بها، وإدماجها في السياسات الوطنية، ومنحها صفة قانونية تُسهّل عملها وتُعزز شرعيتها، من خلال تنظيم افراد هذه المجتمعات وتسجيل مؤسساتهم ومنظماتهم رسميا، وتوفير وتسهيل الدعم والتمويل داخليًا وخارجيًا، وإنشاء صناديق دعم خاصة للمبادرات في مناطق النزاع، تُموّل من الدولة والشركاء الدوليين، وتُدار بشفافية ورقابة، مع تسهيل اجراءات الدعم والتمويل بإلغاء كافة التعقيدات البيروقراطية، وتوفير نماذج مبسّطة لتقديم الطلبات، مع دعم فني للمجتمعات غير المعتادة على التعامل مع الجهات المانحة، وايضًا العمل على بناء القدرات المحلية، عبر تقديم سلسلة من الدورات والورش التدريبية والتأهيلية في مجالات رفع القدرات والمهارات الحياتية والإدارية، والمحاسبية، وبناء الذات، وحل النزاعات، وصناعة السلام وغيرها، مع تأسيس مراكز ومعاهد للتدريب المهني والحرفي والفني، لضمان فاعلية واستدامة المبادرات، وتشجيع التعاون والتشبيك بين المبادرات الشعبية والمجالس المحلية والجهات المانحة، والمؤسسات التعليمية والصحية، والمنظمات والجهات المماثلة داخليا وخارجيا وفق ضوابط واضحة، تساعد في تحقيق الفائدة المرجوة، ولتوسيع الأثر وتعزيز التكامل، وايضًا إشراك النساء والشباب، ودعم المبادرات التي تقودها النساء والشباب، خاصة في مجالات التعليم، الصحة، والثقافة والسلام الأهلي، لضمان شمولية الجهود.
كما اوحت من قبل أن دعم المبادرات الشعبية في مناطق النزاع، وتمويل المشاريع التنموية بقيادة السكان المحلين ليس مجرد دعم مالي وعمل تنموي، بل هو تحوّل في فلسفة التنمية واستثمار في السلام الحقيقي والمستدام، فالمجتمعات التي تُمنح الثقة والموارد، تُصبح شريكة في بناء الدولة، لا مجرد متلقية للقرارات والمساعدات، فواحدة من خطوات بناء وصناعة السلام المستدام، وايجاد حل لجذري لمسألة الحرب في السودان هو دعم واسناد وتمويل المبادرات الشعبية المحلية وتحويلها إلى رافعة وطنية للتغيير، تسهم في ايجاد حل جذري لمسألة الحرب في السودان.




