الهادي الشواف .. صناعة السلام المستدام في السودان رؤية لحل جذري لمسألة الحرب – (7)

كتب : الهادي الشواف
رابعًا: نحو دور إقليمي ودولي مسؤول:
تتتبع هذه الرؤية في حلقات جذور النزاع المسلح في السودان، وتطرح رؤية استراتيجية لصناعة سلام مستدام لا يقتصر على وقف إطلاق النار، بل تسعة لمعالجة البنية السياسية والاجتماعية التي أنتجت الحرب، وتستند إلى تحليل الواقع السوداني، وتتبنى مقترحات عملية لبناء عقد اجتماعي جديد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلية، في هذا المقال نتعرف على دور الفاعلين الاقليميين والدوليين في الازمة السودانية، وأهمية توحيد المبادرات ومنابر التفاوض، وايضًا ضرورة ربط الدعم الدولي بالتحول المدني الديمقراطي، وكذلك حماية العملية السياسية من التدخلات السلبية، من أجل الوصول لسلام مستدام، وحل جذري لمسألة الحرب في السودان.
دور الفاعلين الإقليميين والدوليين في الأزمة السودانية:
في ظل تعقيدات المشهد السوداني، لا يمكن فصل الأزمة الداخلية عن السياق الإقليمي والدولي، فالسودان، بحكم موقعه الجغرافي وتاريخه السياسي، ظل ساحة لتقاطع المصالح، والتدخلات، والتحالفات المتغيرة، ومع تصاعد النزاع المسلح، والانهيار المؤسسي، برز دور الفاعلين الإقليميين والدوليين بشكل أكثر وضوحًا، سواء عبر الوساطة، أو الدعم الإنساني، أو التدخل السياسي والعسكري، لكن هذا الدور، رغم أهميته، يظل محل جدل بين من يراه دعمًا للتحول الديمقراطي، ومن يعتبره تكريسًا للتوازنات الخارجية على حساب الإرادة الوطنية، ومن يراه ساهم في تقوية أحد طرفي الحرب واطالة امد الحرب.
بدون شك أن دول الجوار مثل مصر، إثيوبيا، تشاد، وجنوب السودان، تتأثر بشكل مباشر بما يدور في السودان من نزاع، فهو يوثر على الأمن الحدودي بين الدول، يجعل الحدود هشة امنيًا، ويفتح الطريق لتسلل الجماعات الارهابية، وغيرها من المجموعات التي تستثمر في الازمات، من قطاع طرق ونهب مسلح ومرتزقة وتجار سلاح، ومن زاوية أخرى سوف يمثل تدفق اللاجئين ضغط كبير على دول الجوار، واذا تطورت الحرب أكثر واتسعت دائرتها فأنها ايضا توثر على الامن في البحر الاحمر، هذه المؤشرات وغيرها تفرض على دول الجوار لعب ادوار محوريًة، تلبي رغباتها في أحداث توازنات مائية وسياسية، فبعض هذه الدول تلعب دورًا في الوساطة والسعي لإيقاف الحرب، وبعضها يسعى إلى تسعيرها بالدعم العسكري لاحد طرفي النزاع، بينما تسعى أخرى لحماية مصالحها الاستراتيجية، مما يُعقّد جهود السلام، فالشاهد هو أن التنافس الإقليمي بين القوى الكبرى في المنطقة (مثل السعودية والإمارات وتركيا وغيرها) يُلقي بظلاله على المشهد السوداني.
الفاعلون الدوليون.. بين الدعم والتأثير:
في واقع الامر أن الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لعبا دورًا في الوساطة، وتقديم المساعدات، رغم انها غير كافية، ربما بسبب وجود تحديات في التنسيق والفعالية، أو عدم استشعارهم بحجم الكارثة الانسانية التي خلفتها الحرب، ويمتد الدعم والتأثير إلى بعض الدول العربية مثل السعودية وقطر والامارات، لمساهمتهم الكبيرة في عمليات الدعم والاغاثة، وفي ذات المسار يمتد تأثير هذه الدول في التوازن السياسي، وفي المقابل نجد أن الدول الغربية مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، نتلمس اثرهم في الدعم الإنسانيً والسياسيً، وعلى النقيض من ذلك تشير اصابع الاتهام إلى أن هذا الدعم والتأثير يرتبط أحيانًا بالانتقائية، أو فرض أجندات خاصة مرتبطة بتقاطع مصالح هذه الدول، في ذات السياق نجد أن المنظمات الدولية تُسهم في توثيق الانتهاكات، وتعمل على تقديم العون والدعم للضحايا، لكنها تحتاج إلى بيئة آمنة وشفافة للعمل.
يجدر الاشارة إلى انه في عالم اليوم، وفي ظل الانفتاح الكبير الذي احدثه التطور التكنولوجي، والفضاء السياسي المفتوح الذي ذابت فيه الحدود، أصبح من الصعب وضع متاريس امام تأثير الدور الخارجي في أي نزاع داخلي، وعلى ضوء ذلك فأن هذا الدور يواجه تحديات حقيقية، في محاولته الجادة لإيقاف الحرب، فتعدد المنابر والوسطاء وتضارب المبادرات أضعف فرص التوصل إلى حل موحد، كما أن غياب التنسيق بين الفاعلين الدوليين والإقليميين يُؤدي إلى ازدواجية في المسارات السياسية، فضلا عن أن الارتهان والركون على الحلول الخارجية بشكل كامل، وفي ظل تقاطع المصالح الخارجية يهدد استقلال القرار الوطني، ويوثر في منهجية حل النزاع، ويعيد إنتاج التبعية.
في ظل هذه التعقيدات الدولية، ما يهمنا هو كيفية توظيف هذا الدور والتأثير الاقليمي والدولي بشكل إيجابي؟ يسهم في الوصول لحل جذري لمسألة الحرب في البلاد، على سبيل المثال العمل على توحيد المبادرات الدولية والإقليمية ضمن إطار تنسيقي واحد وواضح، يراعي أولويات السودانيين، ودعم العملية السياسية بقيادة وطنية باعتبارهم أصحاب المصلحة، بدلا عن فرض حلول فوقية جاهزة من الخارج، وايضًا تعزيز الدعم الإنساني والحقوقي، خاصة في مناطق النزاع والنزوح، بالإضافة إلى تكثيف الضغط من أجل وقف الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين، عبر آليات دولية فعالة، مع احترام السيادة الوطنية، وتقديم الدعم دون التدخل في تفاصيل التوازنات الداخلية.
كما أوضحت أن دور الفاعلين الإقليميين والدوليين في السودان لا يمكن إنكاره، ولا تجاوزه بأي شكل من الاشكال، لكنه يحتاج إلى إعادة ضبط وتوظيف، بصورة تراعي وتعظم مصالح الشعب السوداني، فالسودان لا يحتاج إلى وصاية، بل إلى شراكة عادلة تُسهم في بناء مستقبل يُعبّر عن إرادة أبنائه، لا عن مصالح الآخرين.
توحيد المبادرات ومنابر التفاوض:
منذ اندلاع النزاع في السودان، تعددت المبادرات السياسية، وتكاثرت منابر التفاوض، وتداخلت الوساطات الإقليمية والدولية، حتى بات المشهد السياسي أشبه بفسيفساء متنافرة، فمن منبر جدة للمنامة مرورا بالقاهرة والايقاد والاتحاد الافريقي والتركية والثلاثية وجنيف واخيرا الرباعية، تناسلت المبادرات بطريقة دراماتيكية، ورغم النوايا الحسنة لبعض الأطراف، فإن هذا التعدد غير المنسق أدى إلى تشتيت الجهود، وإرباك المسار التفاوضي، وإضعاف فرص الوصول إلى حل شامل وعادل، لذا، فإن توحيد المبادرات ومنابر التفاوض يُعد ضرورة وطنية عاجلة، لا مجرد خيار تكتيكي.
تأتي أهمية توحيد المبادرات ومنابر التفاوض، لعدة اسباب نذكر منها، تعدد المنابر يُنتج اتفاقات جزئية، وتُكرّس الانقسام بدلًا من تجاوزه، ولأن الأطراف المتنازعة تستغل التعدد لانتقاء المسارات التي تُناسب مصالحها، نجدها ترحب بهذا المنبر وترفض ذاك، وتوقع هنا ثم لا تنفذ، وهكذا مما يُضعف الالتزام من قبل الاطراف المتنازعة، وايضا تعدد المنابر يجعل المجتمع الدولي يُواجه صعوبة في دعم مسار غير موحد، مما يُقلل من فعالية الضغط والدعم.
ولكي نُوحّد المبادرات ومنابر التفاوض المتعددة، يجب اولًا توحيد القوى المدنية الديمقراطية الداعية للسلام ورافضة للحرب، وكل القوى الجهات والكيانات ومنظمات المجتمع المدني، والمجموعات الشعبية والاهلية المحلية، المؤمنة بمسألة ايقاف الحرب وانجاز التحول المدني والديمقراطي، والدعوة إلى إطلاق منصة وطنية جامعة تُضمّ فيها القوى السياسية والمدنية والحركات المسلحة، وتُدار من جهة مستقلة، تحت رعاية إقليمية ودولية، وتُعتمد كمرجعية تفاوضية واحدة، مع اقناع الجهات الوسيطة (مثل الاتحاد الإفريقي، الإيقاد، الأمم المتحدة، ودول الجوار، ودول الرباعية) بتنسيق الوساطات الدولية والإقليمية في منبر واحد متفق عليه يمثل خلاصة تجارب المبادرات والمنابر السابقة، ويعتمد أهم نقاط الاتفاق فيها مع توازن الرؤية التي تذهب بالتفاوض إلى حل جذري للازمة، بالالتزام بهذا المسار التفاوضي الموحد المتفق عليه، الذي يتم فيه تُنسّيق الجهود وتُمنع المبادرات المتنافسة.
ولكي ينجح هذا المنبر الموحد يجب أن لا يقتصر التفاوض بين النخب السياسية والعسكرية، بل يجب الحرص على إشراك المجتمع المدني والضحايا، وممثلو المجتمع المدني، والنساء، والشباب، والنازحين، بصورة أو بأخرى لضمان شمولية الحل، مع وضع جدول زمني واضح، وتحديد مراحل التفاوض، وأولوياته، ومخرجاته، ضمن إطار زمني واقعي، يُمنع فيه التلاعب أو التسويف أو المماطلة، ومحاولات كسب القوت من طرفي النزاع، ومن المهم جدًا ربط التفاوض بمسار العدالة الانتقالية، والحرص على عدم الافلات من العقاب، ويجب أن يكون أي اتفاق سياسي مرتبطًا بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، واعمار ما دمرته الحرب، لضمان عدم تكرار الأزمة.
في الحقيقة أن توحيد المبادرات ومنابر التفاوض ليس مجرد تنظيم إداري، بل هو شرط أساسي لإنقاذ السودان من التفتت السياسي، وإطلاق مسار سلام حقيقي، فالحلول المجزأة تُنتج أزمات جديدة، بينما المسار الموحد يُمهّد لبناء دولة تستوعب الجميع، وتُكرّس العدالة، وتُعيد الثقة في السياسة، فالسودان بحاجة إلى طاولة تفاوض واحدة، لا عشرات الطاولات المتنافسة.
ربط الدعم الدولي بالتحول المدني الديمقراطي الحقيقي:
في واقع الأمر ظل الدعم الدولي حاضرًا في مختلف مراحل الازمة السودانية، من الإغاثة الإنسانية إلى الوساطات السياسية، ومن تمويل المشاريع إلى دعم الانتخابات، لكن هذا الدعم، في كثير من الأحيان، لم يُربط بشكل واضح بمسار التحول المدني الديمقراطي، مما سمح باستمرار الانقلابات، وتغوّل العسكر، وتهميش القوى المدنية، لذا، فإن ربط الدعم الدولي بالتحول المدني الديمقراطي الحقيقي لم يعد مطلبًا سياسيًا فقط، بل ضرورة أخلاقية واستراتيجية لضمان أن لا يُستخدم الدعم في تقويض الديمقراطية.
تنبع أهمية ربط الدعم الدولي بعملية التحول المدني الديمقراطي، من الاتي ذكره اولًا لأن الدعم غير المشروط يُمكن أن يُكرّس الأنظمة غير الديمقراطية، ويُعيد إنتاج الاستبداد، ولأن القوى المدنية تحتاج إلى دعم فعلي لكي يقوى عودها، وتتمكن من تحمل تباعات التحول والانتقال، لا مجرد بيانات تضامن، لمواجهة تغوّل العسكر، وايضًا لأن التحول الديمقراطي يتطلب بيئة دولية تُحفّز الإصلاح، وتُعاقب الانحراف.
ولكي يتم الربط ما بين الدعم الدولي والتحول الديمقراطي، بشكل فعّال يجب اشتراط الدعم بالمؤشرات الديمقراطية، وربط المساعدات الاقتصادية والسياسية بإجراءات واضحة مثل تسليم السلطة للمدنيين بشكل كامل، دون تكرار تجربة الشراكة السابقة المعيبة، واحترام الحريات العامة والحقوق، واستقلال القضاء، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، ودعم المؤسسات المدنية لا العسكرية، وتوجيه التمويل نحو بناء مؤسسات مدنية قوية مثل القضاء، الإعلام، التعليم، الإدارة المحلية، بدلًا من دعم الأجهزة الأمنية أو العسكرية، فضلا عن تمكين المجتمع المدني، عبر تقديم دعم مباشر للمنظمات المدنية، والنقابات، والمبادرات المجتمعية، لضمان مشاركة شعبية واسعة في التحول الديمقراطي، والاهم من هذا وذاك هو فرض عقوبات على معرقلي التحول المدني الديمقراطي، واستخدام أدوات الضغط الدولي (مثل العقوبات الفردية، وتجميد الأصول، وحظر السفر)، وحتى لو دعي الامر إلى التدخل المباشر، ضد من يُعرقلون المسار المدني أو يرتكبون انتهاكات، مع وضع أسس واضحة تمكن من مراقبة شفافة للمساعدات، وإنشاء آليات رقابة مستقلة تُتابع كيفية استخدام الدعم، وتُقدّم تقارير دورية، وتُشرك السودانيين في تقييم الأثر.
خلاصة القول هو أن ربط الدعم الدولي بالتحول المدني الديمقراطي الحقيقي، هو تحويل المساعدات من أدوات إنقاذ إلى أدوات تغيير وبناء، والسودان لا يحتاج إلى دعم يُبقيه في الدائرة الأزمة الشريرة، بل إلى شراكة تُخرجه منها، وتُكرّس دولة القانون، والمواطنة، والمشاركة، فالديمقراطية لا تُستورد، بل تصمم بطريقة تراعي طبيعة المجتمعات المحلية، وتحتاج إلى بيئة دولية تحتضنها وتسندها وتُحميها وتُحفّزها.
حماية العملية السياسية من التدخلات السلبية:
العملية السياسية في السودان لم تكن بمنأى عن التدخلات السلبية، سواء من أطراف داخلية تسعى لتقويض التحول الديمقراطي، أو من جهات خارجية تُحاول فرض أجنداتها عبر النفوذ المالي أو العسكري أو الإعلامي، هذه التدخلات، تُهدد استقلال القرار الوطني، وتُربك المسار السياسي، وتُعيد إنتاج الأزمات، لذا، فإن حماية العملية السياسية من التدخلات السلبية هو شرط أساسي لبناء دولة ديمقراطية مستقلة تُعبّر عن إرادة شعبها.
وفي هذا السياق يمكننا رصد جملة من أشكال التدخلات السلبية ونحدد طبيعتها، حيث تأتي في مقدمتها تغوّل المؤسسة العسكرية على السلطة المدنية بقوة السلاح، وفرض شروط تفاوضية تُكرّس هذه الهيمنة، ومن ثم يلعب المال السياسي المشبوه الذي يُستخدم لشراء الولاءات والزمم وتمويل حملات التضليل، الذي يعمل على تشويه وتزيف الحقائق، ويعمل ايضا على ضرب الثقة بين المكونات المدنية الديمقراطية، ويحرض على الانقسام، ويضعف الثقة في العملية السياسية، وايضًا الاستقطاب الإقليمي والدولي الذي يُحوّل السودان إلى ساحة تنافس بين القوى الخارجية.
لكي نحصن العملية السياسية من هكذا تدخلات، يجب العمل على إقرار ميثاق وطني للشفافية السياسية يُلزم القوى السياسية بالكشف عن مصادر تمويلها، ويُمنع تلقي الدعم الخارجي دون رقابة، ضمان استقلال المؤسسات الانتقالية، يجب أن تُدار الحكومة، والمجالس التشريعية، والهيئات الرقابية، من شخصيات مدنية وطنية، غير خاضعة لأي جهة مسلحة أو خارجية، تنظيم الإعلام وضبط الخطاب السياسي، ووضع قوانين تُجرّم التحريض والتضليل وخطاب الكراهية، وتُعزز الإعلام المهني الوطني المستقل، وتُراقب الحملات الممولة خارجيًا بشكل صارم، إشراك المجتمع المدني في الرقابة، وتمكين منظمات المجتمع المدني من مراقبة العملية السياسية، وتقديم تقارير دورية، والمشاركة في صياغة السياسات، التنسيق مع الشركاء الدوليين بشروط وطنية، الاستفادة من الدعم الدولي دون الارتهان له، عبر وضع إطار شراكة يُراعي السيادة، ويُكرّس التحول الديمقراطي.
نعم أن حماية العملية السياسية من التدخلات السلبية هو تحصينٌ للديمقراطية، واستعادةٌ للقرار الوطني، وضمانٌ لسلام مستدام، فالسودان لن يتعافى ما لم تُدار سياسته بإرادة شعبه، لا بإملاءات الداخل أو الخارج، وبعيدًا عن سيطرة وسطوة العسكر، فالديمقراطية لا تُحمى بالنيات، بل تحرس بالعمل الجاد، والمؤسسات، والشفافية، واليقظة الجماعية.




