مقالات

الهادي الشواف .. صناعة السلام المستدام في السودانرؤية لحل جذري لمسألة الحرب – (9)


كتب : الهادي الشواف

سادسًا: التنمية الاقتصادية المتوازنة كمدخل لحل جذري لمسألة الحرب في السودان:

تتتبع هذه الرؤية في حلقات جذور النزاع المسلح في السودان، وتطرح رؤية استراتيجية لصناعة سلام مستدام لا يقتصر على وقف إطلاق النار، بل تسعة لمعالجة البنية السياسية والاجتماعية التي أنتجت الحرب، وتستند إلى تحليل الواقع السوداني، وتتبنى مقترحات عملية لبناء عقد اجتماعي جديد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلية، في هذا المقال نواصل محاولات طرح رؤية لحل جذري لمسألة الحرب في السودان، من خلال مناقشة التنمية الاقتصادية المتوازنة كمدخل لحل جذري لمسألة الحرب في السودان، من خلال تتبع الجذور الاقتصادية للأزمة السودانية، وتناول الاقتصاد كانعكاس للصراع وكأداة للسلام، والاقتصاد كأفق فلسفي.. مفهوم النمو والتنمية الاقتصادية.

الجذور الاقتصادية للأزمة السودانية:

في قلب المأساة السودانية، حيث تتشابك الجغرافيا بالتاريخ، وتتصادم الارادات في فضاء هشّ من الدولة، يبرز البعد الاقتصادي ليس فقط كأحد ضحايا الحرب، بل كفاعل محتمل في صياغة مستقبل مختلف، فالحرب التي اندلعت في أبريل 2023م بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وكل الحروب السودانية ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي انعكاس لانهيار طويل الأمد في البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة السودانية.


يشكل الجانب الاقتصادي أحد اوجه الازمة السودانية، فالعامل الاقتصادي من أهم العوامل المؤثرة سلبًا وايجابًا في بنية الدولة والمجتمع، فينسحب ذلك التأثير المتبادل على الامن والاستقرار، والمتأمل للسياسات الاقتصادي السودانية منذ الاستقلال يجد انها لم تنهض على بنية متينة، وكما انها لم تراعي التنمية المتوازنة، لهذا نجد هناك تراكمات عميقة ومركّبة ساهمت في هشاشة الدولة السودانية، وجعلتها عرضة للانهيار عند أول صدام سياسي أو عسكري، فالسودان تاريخيًا اعتمد على تصدير المواد الخام (القطن، الصمغ العربي، الذهب، النفط قبل انفصال الجنوب)، غاب عنه التنويع الاقتصادي المنتج، مما جعل البلاد عرضة للتقلبات العالمية والابتزاز السياسي، وفي المقابل تركّزت التنمية على قلتها في العاصمة والمناطق الحضرية، بينما عانت معظم الاقاليم والاطراف من الإهمال، بالإضافة إلى ظاهرة الفساد البنيوي ونهب الموارد الممنهج، حيث سيطرت النخب العسكرية والطائفية، وفيما بعد المليشيات والحركات والمجموعات المسلحة على مفاصل الاقتصاد، خاصة في قطاعات الذهب، الأراضي، والموانئ، علاوة على ذلك تم تحويل الموارد إلى شبكات مصالح ضيقة، مما عمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع، مما أضعف البنية التحتية والمؤسسات الاقتصادية، وادى إلى غياب نظام مصرفي فعال، وكذلك ضعف في شبكات النقل خاصة بعد تدمير السكك الحديدية، وانعدام التخطيط الاقتصادي طويل المدى، أدى ذلك إلى هروب الاستثمارات الحقيقية، وتفشي الاقتصاد غير الرسمي.

الاقتصاد كانعكاس للصراع وكأداة للسلام:

منذ استقلال السودان، ظل الاقتصاد أسيرًا لنموذج ريعي هش، يعتمد على تصدير المواد الخام، كمل ذكرنا سابقًا ويعاني من ضعف في التصنيع والانتاج، وتهميش للمناطق الطرفية، هذا التهميش الاقتصادي غذّى شعورًا بالغبن لدى مجتمعات عديدة، خاصة في دارفور، كردفان، والنيل الأزرق، حيث ارتبط الفقر بالمجموعات المحلية، والحرب الأخيرة عمّقت هذا التدهور، فقد شُلّت القطاعات الإنتاجية، ونزح الملايين من مناطقهم، وتفككت سلاسل الإمداد، وانهارت العملة الوطنية، وارتفعت معدلات التضخم والفقر إلى مستويات غير مسبوقة، لكن الأخطر من ذلك هو ظهور اقتصاد موازٍ، قائم على التهريب، والابتزاز، والنهب، مما يهدد بإعادة إنتاج العنف في أشكال أكثر تعقيدًا.


في المقابل، يمكن للاقتصاد أن يتحول من ساحة للدمار إلى منصة للبناء، لكن ذلك يتطلب إعادة التفكير في وظيفة الاقتصاد داخل الدولة السودانية، وتحريره من قبضة النخب العسكرية والريعية، وتوجيهه نحو التنمية الشاملة، وعليه يجب أن تكون إعادة الإعمار مشروعًا وطنيًا جامعًا، لا مجرد عملية هندسية فوقية، فالاستثمار في البنية التحتية التي تلبي الحاجيات الأساسية، مثل التعليم والصحة والمشاريع الزراعية والطرق والجسور والسكك الحديدية والتصنيع بكافة أنواعه، يمكن أن يخلق وظائف، ويعيد الثقة في الدولة، ويمنح الشباب بدائل عن الانخراط في المليشيات والمجموعات المسلحة.


علاوة على ذلك لا بد من تحقيق العدالة الاقتصادية، عبر توزيع الموارد بشكل عادل بين الأقاليم، فالمركزية الاقتصادية التي تركز الثروة في العاصمة كانت أحد أسباب التوترات، ومن جهة أخرى أن تمكين المجتمعات المحلية من إدارة مواردها، يعد مدخل مناسب للتماسك الاجتماعي الذي يعتبر ركيزة أساسية للمجتمعات، وبالإضافة إلى ذلك يجب تخصيص ميزانيات تنموية للأطراف، يمكن أن يخفف من دوافع التمرد، ومن الواجبات المقدمة يجب إصلاح النظام المالي عبر محاربة الفساد، وتوحيد السوق المصرفي، وضبط الإنفاق العام، فالثقة في المؤسسات المالية هي شرط لجذب الاستثمارات، سواء المحلية أو الأجنبية، وفي المقابل ينبغي ربط المساعدات الدولية بالسلام المستدام، لا يكفي تقديم الإغاثة، بل يجب توجيه الدعم نحو مشاريع تنموية طويلة الأمد، تخلق حوافز اقتصادية للسلام، وتربط بين الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.

الاقتصاد كأفق فلسفي.. مفهوم النمو والتنمية الاقتصادية:

في النهاية، لا يمكن فصل الاقتصاد عن الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بالمواطنة المتساوية دون تميز والعدالة، فاقتصاد الحرب لا ينتج فقط الفقر، بل يعيد تشكيل الإنسان السوداني ككائن محروم من الخدمات، ويعاني من التفكك الاجتماعي، ومحاصر بالخوف ومجرد من الاحساس بالحياة وفاقد الأمل، أما اقتصاد السلام، فهو الذي يعيد بناء الانسان ككائن اجتماعي فعال، ويسترد له كرامته الحقيقية، ويمنحه القدرة على الحلم، والمشاركة، والإنتاج.


إن تحويل الاقتصاد من أداة للهيمنة إلى وسيلة للتحرر، ومن ساحة للصراع إلى منصة للتعايش، هو التحدي الحقيقي أمام السودانيين اليوم، فالحل لا يكمن فقط في وقف إطلاق النار، بل في بناء عقد اقتصادي جديد، يعيد تعريف معنى الدولة، ويؤسس لسلام لا يقوم على التوازنات العسكرية، بل على التوازن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ويحلق في فضاءات العدالة والكرامة والفرص المتكافئة، التي تعزز الدولة ذات البعد الاجتماعي العميق، واحداث التوازن بين النمو والتنمية.


فبالتوقف عند الفرق بين مفهومي النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادي، نلحظ أن هنا خلل بنوي عميق في المسألة الاقتصادية، على الاقل على مستوى التطبيق والنتائج الماثلة، فالنمو الاقتصادي حسب اصحاب الاختصاص، يشير إلى زيادة كمية الإنتاج والدخل القومي، دون الاهتمام بجانب تحسين نوعية الحياة، بينما التنمية الاقتصادية تشمل تحسين نوعية الحياة ومستوى المعيشة إلى جانب النمو.


فالنمو الاقتصادي (Economic Growth) هو الزيادة المستمرة في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أو في كمية السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد خلال فترة زمنية معينة، فهو ذات طبيعة كمّية بحتة، يركز على الأرقام والمؤشرات الاقتصادية ويُقاس غالبًا بمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي أو نصيب الفرد من الدخل، ويهدف إلى رفع الإنتاج والدخل القومي، ومن أهم سماته لا يشترط توزيعاً عادلاً للثروة، وقد يحدث في ظل فقر وبطالة أو تدهور بيئي، ولا يعكس بالضرورة تحسناً في جودة الحياة وتحسن المعيشة.


التنمية الاقتصادية (Economic Development) مفهوم كمي، فهي عملية شاملة تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة، القضاء على الفقر، توفير فرص العمل، وتحقيق العدالة الاجتماعية، تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، القياس يشمل مؤشرات مثل مؤشر التنمية البشرية (HDI) ومعدلات الفقر والبطالة وجودة التعليم والرعاية الصحية، وتهدف إلى تحقيق رفاهية الإنسان وتحسين نوعية الحياة، ومن ابرز سماتها، تشمل النمو الاقتصادي كجزء منها، وتهتم بتوزيع الدخل والعدالة الاجتماعية، وتركز على الاستدامة والبيئة.


فهي بهذا المعنى تعتبر مفهومًا اوسع مدي واعمق دلالة عن مفهوم النمو، فهي أي التنمية لا تبحث عن زيادة الانتاج وحده، بل تهدف الي تحسين حياة الانسان ذاته، عبر تطوير التعليم والصحة والبنية التحتية، وتوزيع الموارد بعدالة، ورفع الانتاجية، واتاحة الفرص، وتوسيع المشاركة الاقتصادية، فهي اذًا مفهومًا كيفيًا قبل ان يكون كميًا، وما يؤكد ذلك انها تقاس بجودة الخدمات، وتحسين مستوى المعيشة وانخفاض معدات الفقر، وتراجع البطالة، انها انتقال بالمجتمع من حال الى اصلح واعدل، واقدر على اتخاذ موقع منتج ومستدام في العالم.


وفي ذات السياق، كان اول من ابرز الحديث عن النمو الاقتصادي هو “ادم اسميث”، حين ربطه بزيادة الانتاج وتقسيم العمل، وتلاه “ديفيد ريكاردو” الذي ركز على توزيع الدخل وعلاقته بتطور الاقتصاد، ومن ثم وجاء “جوزيف شومبيتر” مبينًا أن الابتكار هو محرك النمو الحقيقي، قبل ان يقدم “روبرت سولو” نموذجه الشهير الذي جعل رأس المال والعمل والتكنولوجيا ركائز لقياس النمو، وفي ميدان التنمية لفت “ارثر لويس” الإنتباه إلى انتقال العمالة من الزراعة إلى الصناعة باعتباره ركيزة التطور، ثم صاغ “والت روستو” تصوره الخماسي لمراحل التقدم، ليأتي بعدهم “امارتيا سن” الذي اعاد تعريف التنمية بوصفها توسيعًا لقدرات الانسان وتحسيًا لرفاهه لا مجرد زيادة في الانتاج.


وبناء على تلك المعطيات ووفق تلك الرؤية أذا قارنا بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية في سياق السودان مع أمثلة واقعية، نجد أن النمو الاقتصادي تمثل في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في بعض السنوات نتيجة تصدير النفط (خاصة قبل انفصال الجنوب عام 2011م)،وايضًا زيادة إنتاج الذهب والزراعة في بعض الفترات، ومن أهم سماته يعتبر نمو غير مستدام، أعتمد بشكل أساسي على موارد أولية من المواد الخام وشبه الخام، ولم يُترجم إلى تحسين ملموس في حياة المواطنين، وركز الثروة في يد فئات قليلة وبعض النخب، مع استمرار الفقر والبطالة لشريحة كبيرة جدًا من المواطنين، اما اذا نظرنا إلى واقع التنمية الاقتصادية، نجدها تتميز بالضعف أو ممكن القول بأنها غير موجودة، بسبب ضعف البنية التحتية، وتدهور التعليم والصحة والخدمات الاساسية، استمرار النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي، ومؤشرات غياب التنمية يظهر في ارتفاع معدلات الفقر (ارتفعت من %21 إلى %71 أي أكثر من 23 مليون سوداني تحت خط الفقر)، بالإضافة إلى ضعف الخدمات الأساسية في الريف والمدن، وايضًا وجود تفاوت كبير بين الأقاليم في فرص التنمية.

التنمية الاقتصادية المتوازنة:

بناء على ما سبق أن التنمية الاقتصادية المتوازنة يمكن أن تكون حجر الأساس لحل جذري ومستدام لمسألة الحرب في السودان، عبر معالجة جذور النزاع مثل التهميش الاقتصادي والاجتماعي، والفقر وانعدام العدالة في توزيع الموارد، وفي واقع الامر أن التهميش الاقتصادي والإقليمي هو أحد الأسباب الرئيسية للصراع في السودان، حيث تركزت التنمية في مناطق محددة مثل العاصمة وبعض المدن الكبرى، بينما عانت معظم مناطق البلاد من الإهمال المتعمد، مثل هذا الاهمال زريعة لنهوض حركات احتجاجية، وشكل مرجعية لمعظم الحركات والمجموعات المسلحة، فكانت النتيجة سلسلة من الحروب العبثية التي دمرت البنية التحتية وشلت القطاعات المنتجة مثل الزراعة والصناعة خلال الحرب، ونتيجة لذات الحرب تمدد الاقتصاد الموازي الذي تديره الجماعات المسلحة، مما زاد من تعقيد الأزمة، وايضًا الحرب أثرت بشكل مباشر على الإنسان السوداني، من خلال النزوح والبطالة وانعدام الأمن الغذائي.


لذلك فأن البلاد ينتظرها مشوار طويل في سبيل التعافي من اثار الحرب، وفي ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، تكون الخطوة الأولى في هذا المشوار هي إعادة بناء الاقتصاد بعد الحرب، واعادة اعمار ما دمرته الحرب، وفي ذات السياق تحتا البلاد لخطة انتقالية لإنقاذ الاقتصاد والخروج به من مرحلة العجز لمرحلة النهوض، ومن ثم يتم تعزيز ذلك بخطة تعبر به محطة النهوض إلى الانطلاق، فاعتماد التنمية الاقتصادية المتوازنة يمكن أن تكون المدخل المناسب لتحقيق التنمية المستدامة والعبور بالسودان لمرحلة التمكين الاقتصادي.


وهنا فلا بد من الإشارة إلى أن التنمية الاقتصادية المتوازنة تعني توزيع الاستثمارات والبنية التحتية والخدمات بشكل عادل بين جميع الأقاليم، مما يقلل من الشعور بالظلم ويعزز الانتماء الوطني، وكذلك التنمية المتوازنة تركز على إعادة إعمار القطاعات الحيوية بشكل متكافئ، مما يخلق فرص عمل ويعيد الثقة في الدولة كمصدر للرفاه والاستقرار، وايضًا التنمية المتوازنة تتطلب إصلاحات قانونية ومؤسسية تضمن الشفافية والرقابة على الموارد، وتحد من سيطرة النخب العسكرية والجماعات المسلحة والرأسمالية الطفيلية والانتهازية المتحالفة معها على الاقتصاد، وايضًا التنمية المتوازنة تشمل الاستثمار في التعليم والصحة والتدريب المهني والفني، مما يعيد بناء رأس المال البشري ويمنح المواطنين أدوات للمشاركة في الاقتصاد الوطني.


بمعنى أخر فأن التنمية الاقتصادية المتوازنة، تعمل على اعادة بناء الانسان وتعزيز السلام الاجتماعي، فعندما يشعر المواطنون بأنهم جزء من عملية التنمية، تقل احتمالية انخراطهم في الصراعات المسلحة، علاوة على ذلك فأن التنمية المتوازنة تخلق بيئة مواتية للحوار والمصالحة الوطنية، وتدعم أعادة بناء مؤسسات مدنية قوية قادرة على إدارة التنوع والتعددية، وتعمل على اعادة بناء نموذج اقتصادي متكامل وشامل ومتعدد المصادر والموارد ويعتمد الانتاج والانتاجية، وهناك دراسة حديثة استخدمت نموذج التوازن العام القابل للحوسبة (CGE) لقياس أثر الحرب على الاقتصاد السوداني، وأظهرت أهمية الترابط بين القطاعات المختلفة لتحقيق التعافي، إذا طُبقت التنمية الاقتصادية المتوازنة كسياسة وطنية شاملة، يمكن أن تتحول من مجرد أداة اقتصادية إلى آلية استراتيجية لبناء السلام الدائم في السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى