مقالات

الهادي الشواف .. صناعة السلام المستدام في السودان رؤية لحل جذري لمسألة الحرب – (10)


كتب : الهادي الشواف

سابعًا: عقد مؤتمر دستوري تأسيسي:

تتتبع هذه الرؤية في حلقات جذور النزاع المسلح في السودان، وتطرح رؤية استراتيجية لصناعة سلام مستدام لا يقتصر على وقف إطلاق النار، بل تسعة لمعالجة البنية السياسية والاجتماعية التي أنتجت الحرب، وتستند إلى تحليل الواقع السوداني، وتتبنى مقترحات عملية لبناء عقد اجتماعي جديد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتمكين المجتمعات المحلية، في هذا المقال نواصل محاولات طرح رؤية لحل جذري لمسألة الحرب في السودان، من خلال مناقشة امكانية عقد مؤتمر قومي دستوري تأسيسي، مع اقرار مبادئ فوق دستورية تكون ضامن لاستدامة الديمقراطية وعدم النكوص عنها.

عقد مؤتمر تأسيسي.. نحو رؤية وطنية جامعة لبناء الدولة:

في ظل تعقيدات الأزمة السودانية، وتعدد المبادرات السياسية، وتشتت منابر التفاوض، وتعند اطراف القتال من التوافق على هدنة انسانية، بات من الضروري أن يتداعى اصحاب المصلحة، من قوى سياسية ومدنية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات ومجموعات شبابية ونسائية، وكل المكونات الاهلية والمجتمعية من انصار ايقاف الحرب، وبناء سودان مدني ديمقراطي، أن يتوافقوا على عقد مؤتمر تأسيسي شامل لوضع أسس لحل شامل، كمدخل للمؤتمر القومي الذي يجب عقده فيما بعد، تشارك فيه كل القوى المدنية والمجتمعية، والشباب، والنساء، بهدف صياغة رؤية مشتركة تُبنى عليها السياسات والدستور الدائم ومستقبل الحكم، هذا المؤتمر لا يجب أن يكون مجرد لقاء نخبوي، بل منصة شعبية تأسيسية تُعيد السلطة إلى الناس، وتُكرّس الإرادة الوطنية.


المؤتمر القومي الدستوري يُعد خطوة مركزية نحو إنهاء الحرب في السودان وبناء دولة مدنية ديمقراطية، عبر حوار شامل يضم كافة القوى السياسية والاجتماعية، الجدير بالذكر ان فكرة المؤتمر القومي الدستوري ليست جديدة، لقد طُرحت من قبل في الثمانينات، وتبنتها لاحقًا عدة تحالفات سياسية مثل نداء السودان، وقوى الإجماع الوطني، وقد أعيد إحياؤها بعد ثورة ديسمبر المجيدة 2018م، ونصت عليها الوثيقة الدستورية لعام 2019م كأحد المطالب الاساسية لإعادة مسارات الانتقال السياسي، والشروع في تأسيس الدولة على أسس جديدة تمثل وتعبر وتلبي تطلعات جميع مواطنيها.

ومن أهم أهداف المؤتمر، وقف الحرب واعادة بناء دولة سودانية موحدة، هذا المؤتمر ايضًا يجب أن يُركز على إنهاء النزاع المسلح وتأسيس جيش قومي موحد أساسه القوات المسلحة السودانية، وتحديد مهام المرحلة الانتقالية، لتشمل عودة النازحين واللاجئين، استعادة الخدمات، واعادة اعمار ما دمرته الحرب، ووضع أساس لدستور دائم، لتجنب تكرار الأزمات والانقلابات العسكرية، وبناء مؤسسات ديمقراطية مستقرة، وتكون آلية الحوار في المؤتمر القومي مقسمة إلى مرحلتين، مرحلة عاجلة، تُعالج القضايا الأمنية والإنسانية، ومرحلة استراتيجية، تُناقش قضايا السلام الشامل والمستدام، عبر مناقشة اسباب النزاع بشكل عميق، ووضع حلول جذرية تخاطب المسببات بشكل شامل، ليكون هذا المؤتمر منصة الانطلاق إلى بناء الدولة الوطنية القائمة على اساس المواطنة دون تميز، والعدالة والمساوة في الحقوق والواجبات.

المؤتمر الدستوري التأسيسي كمدخل لإعادة تأسيس الدولة السودانية:

منذ استقلال السودان عام 1956م، هنالك اسئلة وجودية ظلت تطل برأسها بشكل متكرر دون ان تجد إجابة شافية ومتوافق عليها من قبل كل السودانيين وتعبر عن تطلعاتهم في وطن يسع الجميع، فهذه الاسئلة ظلت معلقًا في فضاء سياسي هش، تتنازعه سرديات متضاربة حول الهوية وطبيعة الدولة والسلطة وكيف تحكم البلاد وما هو نظام الحكم المناسب وغيرها، و عدم حسم الاجابة على هذا الاسئلة ادى إلى الفشل في انجاز عقد اجتماعي جامع، وفي المقابل ورث السودانيين دولة استعمارية مركزية، ظلت تُعيد إنتاج التهميش والاحتكار السياسي والاقتصادية.

وهذه الحروب العبثية المتكررة ليست استثناءً، بل هي تعبير عن أزمة بنيوية في طبيعة الدولة السودانية نفسها، وما يعيشه السودان اليوم ليس مجرد أزمة سياسية أو أمنية فحسب، بل هي أزمة تأسيس، فالدولة السودانية لم تُبنَ على توافق شعبي واسع، بل بنية على إرث من القهر والظلم والتسلط والجبروت، اضافة إلى الاقصاء والتهميش واعادة انتاج العنف الممنهج، لذا، فإن أي محاولة للإصلاح من داخل هذا البناء المشوّه محكوم عليها بالفشل، والحل لا يكمن في “إصلاح الدولة”، بل في إعادة تأسيسها بشكل جديد، لهذا فأن المؤتمر القومي التأسيسي ليس مجرد منتدى سياسي، بل هو لحظة وعي جماعي يُعيد فيها السودانيون تعريف أنفسهم، ويُجيبون على الأسئلة الوجودية الكبرى، من نحن؟ وما هي هويتنا الجامعة؟ لماذا نحترب؟ وما جذور العنف البنيوي؟ ما طبيعة الدولة التي نريدها؟ هل مركزية أم فيدرالية؟ كيف يُحكم السودان؟ وما شكل النظام السياسي؟ ما شكل النظام الاقتصادي؟ وكيف تأسس العلاقات الخارجية؟ ما العلاقة بين الدولة والمواطن؟ وبين المواطنين أنفسهم؟ وغيرها من الاسئلة الوجودية المؤسسة التي تقطع الطريق امام تكرار الفشل، وتسهم في بناء دولة حديثة مواكبة معبرة عن مواطنيها واشواقهم في الحرية والانعتاق والانطلاق إلى فضاءات الانسانية الرحبة.


وفي هذا الصدد نشير إلى أهمية أن ينهض المؤتمر القومي على مبادئ مؤسسة، بحيث يمتاز بالشمولية وأن لا يُقصي أحد، بل يشمل كافة مكونات الشعب السوداني السياسية والاجتماعية والثقافية.. الخ، وأن يتم تضمين الاعتراف بالتنوع الثقافي، والإقرار بالتعدد الاثني والديني، ويعيد صياغة هذه الأسس والمفاهيم والمبادئ كمصدر للقوة لا كتهديد وحودي للدولة، كما يجب أن يُؤسس المؤتمر لمفاهيم وآليات المحاسبة العادلة لكل من اجرم في حق الوطن وشعبه، ويمهد الطريق لمصالحة وطنية حقيقية قائمة على العدالة الانتقالية، ويؤكد على مدنية وديمقراطية الدولة، والتبادل السلمي للسلطة بعيدًا عن البندقية والعنف، مع اعتماد اللامركزية التشاركية عبر اعادة توزيع السلطة والثروة يُنهي احتكار المركز، كما ذكرنا من قبل ونظل نكرر.

كما يجب الاشارة إلى مخرجات المؤتمر المتوقعة، وهي صناعة دستور انتقالي توافقي يُمهّد لدستور دائم يُعبّر عن الإرادة الشعبية، وكما يجب تضمين وثيقة الحقوق واقرار المبادئ فوق الدستورية لضمان استمرارية القيم الأساسية للدولة، ووضع خارطة طريق للسلام الشامل تُنهي الحروب وتُعيد بناء الجيش على أسس وطنية، وإصلاح مؤسسات الدولة المدنية مثل القضاء والشرطة والخدمة المدنية عامة وغيرها، مع وضع آليات للعدالة والمحاسبة تُنهي الإفلات من العقاب، وتمنع اعادة انتاج العنف، بالإضافة إلى ذلك وضع جدول زمني واضح لاجراء انتخابات بعد استكمال مهام الانتقال.

المبادئ فوق الدستورية.. ضمانات الديمقراطية وحصانة للحقوق:

في ظل التحولات السياسية والدستورية التي تشهدها البلاد، والتعقيدات التي انتجتها سلسلة النزاعات المستمرة في السودان منذ الاستقلال، تبرز الحاجة لمفهوم “المبادئ فوق الدستورية” كأداة لضمان استمرارية القيم الأساسية للدولة، وحماية الحقوق والحريات من أي نزعة استبدادية أو انحراف تشريعي، ولقطع الطريق امام الارتداد إلى دائرة الانقلابات العسكرية والحروب العبثية.


في هذا المقام يجدر الاشارة إلى أن المبادئ فوق الدستورية يقصد بها مجموعة من القواعد القانونية التي تُعتبر أسمى من نصوص الدستور، ولا يجوز تعديلها أو مخالفتها حتى عند تعديل الدستور نفسه، وهي تمثل جوهر النظام الديمقراطي، وركيزة أساسية لأي دولة مرت بظروف معقدة مثل السودان، وبالإضافة إلى ذلك فأن المبادئ فوق الدستورية تعتبر ضمانة اساسية لاستمرارية الدولة على أسس العدالة والحرية والمساواة.


وهناك عدد من الدول التي مرت بظروف مماثلة اعتمدت المبادئ فوق الدستورية، مثل ألمانيا حيث تنص المادة الأولى من الدستور الألماني على كرامة الإنسان، وتُعد غير قابلة للتعديل، وكذلك المجلس الدستوري الفرنسي يعتمد على إعلان حقوق الإنسان لعام 1789م كمصدر للمبادئ فوق الدستورية، وفي الولايات المتحدة تعد وثيقة الحقوق (Bill of Rights) مرجعية فوق دستورية، وتمنع أي قانون ينتهكها، وفي السياق العربي نجد أن مصر بعد ثورة 2011م، طرحت فكرة المبادئ فوق الدستورية لضمان مدنية الدولة ومنع الهيمنة الدينية أو العسكرية على السلطة، وفي تونس اعتمدت المحكمة الدستورية على المبادئ فوق الدستورية لضمان احترام حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين، هذه الامثلة وغيرها تؤكد على أن اقرار مبادئ فوق دستورية مهمة في حالات خروج الدول من ازمات متلاحقة وتجارب صعبة ومعقدة.


ورغم أن هنالك جدل فقهي كثيف حول المبادئ فوق الدستورية، في حين يرى البعض أن هذه المبادئ تحمي الديمقراطية من الانحراف، في المقابل يعتبرها آخرون تقييدًا لإرادة الشعب، خاصة إذا لم تكن منصوصًا عليها صراحة في الدستور، ولكن في كل الاحول ومن خلال تجارب العديد من الدول نجد أن المبادئ فوق الدستورية شكلت حصانة وحائط صد ضد الارتداد والرجوع إلى الماضي المظلم، فهي بهذا المعنى ليست مجرد قواعد قانونية، بل هي تعبير عن القيم العليا التي يجب أن تحكم الدولة، وتُعد حصنًا منيعًا ضد أي محاولة لتقويض الديمقراطية أو انتهاك الحقوق الأساسية.

المؤتمر القومي الدستوري التأسيسي من التنظير إلى التنفيذ:

 للانتقال بفكرة المؤتمر من محطة التنظير إلى الجانب العملي التنفيذي، لا بد من البداية بحسم قضية المشاركة، اي الاجابة على سؤال من يجب ان يشارك في المؤتمر؟ حتى نضمن خروجه بصورة تكون معبرة عن الجميع، فمن المقترحات المطروحة بشدة هي أن يتكون المؤتمر من القوى المدنية والسياسية غير المرتبطة بالعنف أو الانقلابات، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والروابط المهنية، ممثلو المجتمعات المحلية، خاصة من المناطق المتأثرة بالنزاع، والشباب والنساء، ليس كمراقبين بل كصنّاع قرار، الشخصيات المستقلة، والمفكرون، والمبدعون، والفاعلون، والناشطون، مع إعداد ميثاق تأسيسي تمهيدي يُحدّد المبادئ العامة، وآليات المشاركة، وضمانات الشفافية، ومن ثم إطلاق مشاورات شعبية واسعة قبل انعقاد المؤتمر، فضلا عن تنظيم سلسلة من الورش تضم أصحاب المصلحة، وعمل مجموعات حوار واستطلاعات، وحوارات مجتمعية في كل الولايات، لضمان أن المؤتمر يُعبّر عن الناس لا عن النخب فقط، وفي ذات السياق يجب تشكيل لجان فنية لصياغة المخرجات، تشمل لجنة للدستور، لجنة للعدالة الانتقالية، لجنة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ولجنة للحوكمة، وغيرها من اللجان التي تعبر عن مكونات ومخرجات المؤتمر المتنوعة، وكذلك إقرار خارطة طريق تنفيذية تُحوّل مخرجات المؤتمر إلى خطة عمل واضحة، تُلزم الحكومة الانتقالية، وتُراقبها جهات مستقلة.

وهنا لا بد من بيان أن فكرة عقد مؤتمر قومي دستوري ظلت تواجه عدة تحديات بنيوية، منها استمرار الحرب وغياب الضمانات الأمنية، وفي المقابل شكل ضعف الثقة بين المكونات السياسية والاجتماعية، التحدي الاساسي الذي يحول دون انجاز هذا المؤتمر بشكل المطلوب، ومن زاوية أخرى ظلت التدخلات الإقليمية والدولية القائمة على تقاطع المصالح تُعيد إنتاج الانقسام، أضف إلى ذلك غياب الإرادة السياسية لدى بعض الأطراف، في كل الاحوال، السودان الأن لا يحتاج إلى تسوية سياسية فوقية يخطط لها في مطابخ الخارج، أو ترسم ملامحها في الغرف المغلقة من قب النخب، مما قد يعيد إنتاج الأزمة، بل يحتاج إلى عملية تأسيسية تعيد بناء الدولة على أسس جديدة، عبر عقد مؤتمر دستوري تأسيسي يُعبّر عن الإرادة الشعبية، ويُؤسس لعقد اجتماعي جديد، يُنهي الحرب، ويُعيد للسودانيين حقهم في وطنهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى