مقالات

عبدالعال مكين .. لعبة الحرب العبثية ..!

هذا مقالي
عبدالعال مكين
لعبة الحرب العبثية

الحرب لا تُبقي ولا تذر، كالنار في الهشيم، تلتهم الحقول والعقول معاً، لا تفرق بين حجر وشجر وبشر، من أشعلها، يعرف تماما لماذا فعل، فخلف كل بارود مصلحة، وخلف كل دمار يد تصفق خفية لخراب محسوب.

هناك مستفيدون جدد يخرجون من رماد القري والمدن، يبنون أمجادهم على جثث الأبرياء، بينما يضيع الآخرون بين نزوح مر، ولجوء موجع، وانكسار يطفئ آخر ما تبقى من ضوء الإنسان.

الحرب، حين تشتعل، تفسد الأخلاق، تسرق من الإنسان رحمته، وتزرع في قلبه حجرا،
يتحول الموت إلى رقم في دفتر احوال، والدم إلى مشهد عابر على شاشة قناة.

تغدو الحرب لعبة عبثية، يديرها من في الأعلى، بينما يدفع ثمنها من في الأسفل، حيث لا أحد ينتصر، والجميع يخسر إنسانيته.

الحرب لا تبدأ صدفة، ولا تندلع من فراغ، فخلف كل رصاصة قرار، وخلف كل معركة صفقة مدمرة،
الذين يشعلونها يعرفون جيدا كيف تدار النيران، وكيف تقدم المبررات المزيفة عن “الدفاع عن الوطن” و“استعادة الكرامة”، بينما الهدف الحقيقي غالبا لا يتجاوز مصالح سياسية أو اقتصادية، أو حتى نزوات سلطة تبحث عن خلود زائف بين الأنقاض والجراح.
هؤلاء لا يرون في الحرب مأساة، بل مشروعا مربحا، ومسرحا، تتبدل فيه الأدوار حسب المصالح والرغبات.

تتغير الأسماء، تتبدل الشعارات، لكن جوهر اللعبة واحد، كما يقولون الربح للقلة، والخسارة للعامة، في وقت الحرب، ينمو تجار السلاح كالنبت، وتتفتح خزائنهم على حساب جوع النازحين، وتتعاظم مكانة الساسة كلما ارتفعت ألسنة اللهب.

وما بين دخان البارود وصمت الحكام ، تتحول الخرائط إلى مزادات، وتشترى الولاءات كما تشترى السلع في الأسواق الحر.

إنها اللعبة العبثية التي لا تدار بعقول الحكماء، بل بأطماع من لا يرون في الإنسان سوى رقم في جدول الغنائم.

في كل حرب، هناك أبطال من ورق، ومهزومون من لحم ودم، الذين يدفعون الثمن الحقيقي ليسوا على موائد القرار، بل على طرق النزوح، وفي مخيمات اللجوء، وتحت سقوف من خوف ورماد وجوع.

يخرج الناس من بيوتهم حفاة القلوب، يحملون ذكرياتهم في أكياس صغيرة، ويمضون نحو المجهول، تاركين خلفهم ماضيهم معلقا على جدار مهدم.

أطفال يولدون بلا وطن، وأمهات يفقدن أسماء أبنائهن في زحمة الفقد، وشيوخ يودعون أراضيهم وهم يعلمون أن العودة صارت حلما بعيدا.
تتبدل المفاهيم، ويغدو البقاء هو الفضيلة الوحيدة، ويتحول الحزن إلى عادة يومية، هناك، حيث لا فرق بين الليل والنهار، يعيش الإنسان كظل لما كان عليه، منكسرا أمام مشهد يتكرر بلا نهاية.

هكذا تصنع الحرب أجيالا من المنكسرين، وتترك في النفس شقوقا لا تلتئم، لتثبت أن الخراب لا يطال المدن فقط، بل يمتد إلى ضمير الإنسان نفسه.
الحرب لا تقتصر على الدمار المادي، بل تمتد إلى الأعماق، لتفسد ما تبقى من أخلاق وقيم.

في وقت الحرب، تختلط الحقيقة بالكذب، ويصبح الخداع أداة للبقاء، والقتل تجارة مربحة، والوفاء للإنسانية ترفا لا يطيقه الكثيرون.

يتعلم الناس سريعا أن الرحمة ضعف، وأن العدالة لعبة منسية، وأن الضحك على المعاناة طريق للبقاء.
في هذا المشهد القاتم، تتلاشى المبادئ، وتنتشر الأنانية، ويصبح القوي فقط هو من يبتسم بينما الآخرون يمحون من الذاكرة.

حتى اللغة تتغير ،الكلمات تستعمل لتغطية الأفعال القاسية، وتتحول الأخبار إلى سرد بارد، والقصص الإنسانية إلى أرقام في تقارير، لا تثير إلا الشفقة العابرة.

هكذا تحول الحرب الإنسان إلى آلة صامتة، ولعبتها العبثية لا تتوقف إلا عندما ينتهي اللاعبون، ويبقى ما تركته من خرابٍ وفسادٍ شاهداً على عبثية القرار البشري.

في وقت الحرب، الإعلام لا يروي الحقيقة، بل يصوغها، يختصر الموت إلى خبر عاجل، ويحول الألم إلى مشهد يمر سريعا على الشاشات.
تصبح الكلمات أدوات للتجميل، والخراب يغلف بعناوين براقة، والمأساة الإنسانية تقدم كقطعة درامية لا أكثر.

هكذا تتحول الحرب إلى لعبة، حيث الضحايا أرقام، والقرارات البشرية تترجم إلى نسب وحسابات.
واللغة نفسها تخادع، فتصبح البيان الرسمي وسيلة لإخفاء الواقع، وتغدو الصور الرمزية بديلا عن الوجوه الحقيقية التي انهارت تحت وطأة الانكسار.
في نهاية المطاف، تبقى الحرب لعبة عبثية لا يربح فيها سوى أولئك الذين لا يمانعون في الموت والخراب.

الخراب ليس فقط في المدن المهدمة، بل في قلوب البشر، في القيم التي تبخرت، وفي الأرواح التي فقدت إيمانها بالإنسانية.

لكن في مواجهة هذا العبث، يبقى علينا واجب أخلاقي، توثيق الحقيقة، مقاومة التلاعب بالكلمات، دعم الضحايا، وإعلاء صوت الإنسانية فوق أصوات المدافع.

ربما لا نستطيع إيقاف لعبة الحرب، لكننا نستطيع أن نثبت أن الإنسانية لم تمت، وأن العدالة والرحمة يمكن أن تبقى سلاحا في وجه عبث الحرب ومن اشعلها.

*فتّكم بعافية*
*الا هل بلغت اللهم فاشهد*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى