مقالات

الهادي الشواف .. حول دور المثقف الملتزم… وهاجس التغيير


كتب : الهادي الشواف


ظل البعض يرهن إحداث عملية التغيير على فرضية فاعلية الاشخاص الذين يشكلون حضور حركي شبه يومي في قلب الاحداث، من خلال اطلالتهم من منابر متعددة تمثل طيف عريض من منظمات المجتمع المدني بتكويناته المختلفة، هذا الرهان رغم تلمسه لبعض الحقيقة الا انه اغفل جانب مهم ومؤثر جداً في عملية التغير الا وهو دور المثقف الملتزم، وهو الدور الذي يرجى ان يلعبه لانه يتميز بالثبات والديمومة، ورهانه على عملية التغيير الجذري والعميق، اثر اتباعه مسار مغاير في الطرائق والادوات، ولمخاطبته الازمة من موقع الادراك العميق تمظهرها وابعادها الاجتماعية والثقافية.


والمثقف الملتزم، هو ذلك الشخص الذي يمتلك المعرفة، التي تؤهله للمساهمة بأعماله، وفكره، ومعرفته، وعلمه، في النهوض بالمجتمع، وتطويره، وهو المبدع الذي يبدع في ايجاد الخيارات المناسبة لإنجاز عملية التغيير في المجتمع، وهو بالضرورة يؤمن بالتفاعل والتحاور والتثاقف ما بين المنظومات الفكرية والمختلفة، لبناء ارضية مشتركة مرتبطة بواقع المجتمع، للانطلاق من هذا الواقع المأزم لارتياد آفاق واسعة، بعيداً عن التبعية، والتقليد لبعض المدراس الفكرية والفلسفية، التي تتعارض مع أفكار، ومبادئ، وطبيعة مجتمعه، بل عليه أن يعمل في وسط المجتمع، يتفاعل ويتجادل ويتثاقف معه، لاستلهام تجاربه، واكتشاف قوانينه الداخلية، حتى يأتي التعبير عن قضاياه مواكبة، ومنسجمة مع تطلعاته، كما عليه ان يدير حوارات مفتوحة مع التجارب الانسانية المختلفة، لتجديد وتطوير الثقافة المحلية، كما يقول إدوارد سعيد “انا مع الحوار بين الثقافات والتعايش بين الشعوب”.


أن المثقف الملتزم كان حاضراً في كل الساحات، يناضل، وينتقد، ليعبد الطريق لعملية التغيير والنهوض، بما يمتلكه من ادوات المعرفة، التي بالضرورة تقود إلى أكتشاف مسارات جديدة وفاعلة، ومنطلقاً من ارضية ثابتة مسلحاً بالوعي، والمعرفة الكافية بعملية التغيير وماهيتها، ووسائلها، منعطفاتها، وطرق تصحيح مسارها، مع قدرة على أكتشاف المكنونات، وازاحة الغموض، وكشف الشفرات والطلاسم، حتى تسير سفينة التغيير بسلام وتبلغ مظانها.


لهذا فان واجبات المثقف المقدمة هي أن يقوم بدور الناقد، والمستبصر، والكاشف، للسلبيات والانحرافات، ويظهر اماكن الخلل، ويستجلى المناطق المظلمة، ويكشف مكامن الفساد والمحسوبية، ويدل إلى الطريق السليم، ويرشد المجتمع إلى جادة الصواب، فهو حارس العدل والحرية والمساواة.


فالمثقف، متورط بصورة، أو بأخرى في الدفاع عن الفئات الضعيفة في المجتمع، يكافح ويثابر بكل ما لدية، من امكانيات، ومعرفة، وقوة، وإرادة، من أجل أحداث التغيير، وبناء المجتمع الفاعل والمنشود، عبر تغيير وتحريك العقول الجامدة، وتحرير الافكار البالية، وتطوير المفاهيم المتخلفة، وتعزيز بدلاً عنها، العقل الفاعل والمنفتح، وانزال الافكار المتحررة من الاساطير والخرافات، وتجذير المفاهيم الإيجابية التي تحقق انسانية الانسان.


والذي يمنح المثقف العضوي الملتزم بعده الحقيقي هو حجم تورطه في الدفاع عن مصالح الطبقات والفئات الضعيفة، والاكثر ضرراً في المجتمع، حسب قرامشي، وليس ذلك المثقف الذي يتدخل ويدس انفه فيما لا يعنية، كما يرى جان بول سارتر، وهنا بالضرورة لا نقصد بالمثقف ذلك الشخص المتميز عن سائر افراد المجتمع، بصفات فريدة، أو ذلك النخبوي الجالس على برجه العاجي، والمتمترس خلف هالة من اليوتيوبيا، بل نقصد بالمثقف الإنسان العادي، الملتحم بمجتمعه، والذي يمكن يخطيء ويصيب، وقد لا تسعفه معرفته وثقافته في بعض الاحيان، عن الولوج إلى منعطفات خطيرة يمكن ان تضر بالمجتمع ضراراً بالغاً، وهناك بعض المثقفين وظف معرفته وثقافته في توطين الانظمة الشمولية والدكتاتورية، وتكريس التفرقة، والعنصرية، وتغيب العدالة، وأشعال الحروب والفتن، واذكاء النزعات الطائفية والمذهبية.


فالتزام المثقف يجب، وبشكل أساسي ان يكون ملتحماً بالجماهير يعمل وسطهم ومعهم، ويقدم النموذج في التفاني والتضحية، يقول محمود أمين العالم، لا سبيل للمثقفين غير الانخراط في النضال السياسي، بالانغراس فس رحم المجتمع المدني، وتجسيد المثقف الجماعي، وهذه المهام التغيرية لن تكون بدون شرط النقد والمسألة، وعلية فان وظيفة المثقف، ودوره، وهاجسه الاساسي، هو ليس المساهمة في رفع وعي وثقافة المجتمع، والحفاظ على بنيته الاجتماعية، وتطوير منظومته المعرفية القيمية فحسب، بل المساهمة الفعلية في أعادة وانتاج وبناء وتطوير الموروث الثقافي والاجتماعي، عبر ابتداع طرايق ومسارات جديدة، وارتياد دروب وآفاق مختلفة، وفتح فضاءات معرفية وفكرية تطل على منتجات العصر الحديث، ومنطلقة من ارضية ثابتة، من مورثات، عادات، وتقاليد، ومنظومة قيم إجابية، تساهم في تشكيل وبناء المجتمع، ومتكياً على نقد وتفكيك والموروثات، والعادات، والتقاليد البالية، الافكار، والمفاهيم والقيم الجامدة، التي قادة إلى جمود وتكلس وتخلف المجتمع.


والجدير بالملاحظة ان هناك هجوم منظم على المثقف، ومحاولة تنميطه ووضعه في إطار سالب، حتى صارت كلمة مثقف تقابل من البعض بردة فعل سلبية، وحيث يتم تسويق المثقف كمعادل لعدم الجدية والموضوعية والانصرافية، والترفع وعدم الاهتمام بقضايا الشعب، والنظر إلى المجتمع من خلف جدار سميك، والشاهد هو أن بعض انصاف المثقفين، والمثقفين المزيفين، ساهموا في تعزيز هذه النظرة، من خلال عدم اهتمامهم بقضايا المجتمع، والهروب البعض عن واقع مجتمعهم والتقوقع والانعزال، وهروب البعض الاخر بالهجرة إلى المنافي البعيدة، وانخراط البعض الاخر والتماهي مع الانظمة الشمولية الفاسدة، من خلال توظيف ادوات المثقف، في تسويق السلوك الاجرامي وتجميل الانظمة الفاسدة، مع اتباع جملة من الاسانيد والاقول التي تم بها تغبيش وعي المجتمع، ليندب حظه، بان الظلم، والبطش، والفساد، والمعاناة التي يعشها ما هي الا نتاج طبيعي لانحرافه.


فساد نموذج المثقف المزيف، وانتشر في جسد المجتمع كسرطان، عدد لا يستهان به يحملون درجات علمية رفيعة من مؤسسات أكاديمية منحت لهم دون تدقيق علمي حقيقي، واصبحوا يديرون مؤسسات علمية واكاديمية كبرى، مما انتج مجموعة من انصاف المثقفين والمثقفين المزيفين، يعملون على نشر ثقافة الزيف والتسطيح والتبعية والاستلاب، وتجميل الانظمة الدكتاتورية الفاسدة.


لهذا اصبح من الضرورة بمكان بذل الجهود لكشف هذا الزيف والضليل، ومحاصرته حتى لا يضرب المجتمع في مقتل، وعليه ينتظر المثقف الحقيقي الملتزم ادوار عظيمة في الاطلاع بدوره للمساهمة في تعديل هذا الوضع المنعكس والمائل، على مستوي الدولة والمجتمع، ويصبح هذا هو هاجسه الاساسي لانجاز عملية التغيير والتحول من حالة الركون والتخلف إلى سماوات الحرية والتحول الديمقراطي، فعلى مستوى الدولة يجب على المثقف ان يؤثر في التخلص من عقلية المثقف والسياسي الانتهازي والذرائعي والميكافيلي، الذي يكون وبالاً على الشعب لأنه يضحي بالمباديء في سبيل مصلحته الشخصية، فهو هدف لعملية التغيير وهاجس اساسي من هواجس عملية التغيير، ويجب استئصاله اينما وجد في الحكومة أو في المعارضة أو وسط أفراد الشعب، كما عليه ان يعمل من اجل ان يكون العدل مبدأ وسبيل وغاية للدولة والمجتمع، كما يقع على عاتقه عبء كشف المثقفين المزيفين وفضحهم وتعريتهم، ومن أهم هواجس المثقف الملتزم هي عملية النقد المستمرة لكل انحراف على مستوى الدولة والمجتمع، لذا عليه مواجهة انحراف السلطة عن طريق تعزيز واجب تطبيق العدالة على الجميع والتقيد بالدستور وسيادة حكم القانون وحرية التعبير والبحث العلميى واستقلالية القضاء، وعلى مستوى المجتمع تجذير مفاهيم الحقوق والواجبات، ليطلع المجتمع بدوره في اداء واجباته والدفاع عن حقوقه، وهذا لا يتأتي الا عن طريق التصالح والتلاحم التام ما بين المثقف والمجتمع، لانتاج مؤسسات ومنظومات مجتمعية فاعلة في عملية التغيير والتحول.


فالمثقف الملتزم، متورط بصورة، أو بأخرى في الدفاع عن الفئات الضعيفة في المجتمع، يكافح ويثابر بكل ما لدية، من امكانيات، ومعرفة، وقوة، وإرادة، من أجل أحداث التغيير، وبناء المجتمع الفاعل والمنشود، عبر تغيير وتحريك العقول الجامدة، وتحرير الافكار البالية، وتطوير المفاهيم المتخلفة، وتعزيز العقل الفاعل والناقد والمنفتح، وتجذير المفاهيم الاجابية التي تحقق انسانية الانسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى