الجميل الفاضل يكتب من نيالا : “البحير” عروس السودان الجديد حين تزف؟!

الآن، تساقطت آخر أغشية الصبر المترهل، ولم يبق في الوقت وقت لترف الامنيات، هنا التاريخ يصنع نفسه، متغيراته الكبري ستخرج الي حيز الوجود من أضيق نطاق ممكن، كما تخرج من فوهة بركان صغيرة اضخم الحمم وأشدها نارا.
عموما حين تخرج للناس نيالا عروس السودان الجديد، تلبس فستان زفاف براق منسوج لا من حرير باريس، ولا دانتيل ميلانو، بل من خيوط محترقة انتُزعت من جراح التاريخ، غُزلت بأنامل حلم ظل يتواري طويلًا في الظل.نيالا، ثاني أكبر مدن السودان تزيّنت بفستان أبيض، قماشه ميثاق نيروبي، وبقية غزله من الدستور الانتقالي ومن صمود دارفور تحت وطأة الحرب.وصيفتها كاودا، فتاة الجبال الثائرة، تبتسم لأول مرة تتزين بوشاح مطرز بمباديء فوق دستورية، لا تمحي الوانها ولا تزول.
ففي نيالا، تُعلن حكومة، لا تُرسم بجرة قلم من “الحاكم العام” أو من ظل يقوم مقامه الي يومنا هذا، بل بمداد من تلك الشرايين الفوارة المتفجرة.فمن نيروبي، نبع “المياه الباردة” – بلغة الماساي ـ، كتب العقد الأول لهذا الزواج الأسطوري، ميثاقا، ثم دستورا، ثم عرسا كبيرا تُقرع فيه طبول الأمل في ساحة مدينة التصغير المحبب، “البحير” التي تقع غرب “الجبيل”.
علي أية حال هي وردة تفتح اليوم أكمامها لكي تخرج في لحظة سحرية نادرة من بين مياسمها بستانها الواسع العريض.المهم كما قال نيلسون مانديلا: قد يبدو أمر كهذا مستحيل دائما حتي يتحقق.بيد أن سؤالا كبيرا ينشأ في هذه اللحظة الحاضرة يقول: هل غادر “قطار الغرب” بلا رجعة محطة الخرطوم، عاصمة ما يُعرف بدولة (56)؟.إنها الخرطوم، تلك المدينة التي قال عنها شاعر “قطار الغرب”، محمد المكي إبراهيم: “هذه ليست إحدى مدن السودان من أين لها هذه الألوان؟ من أين لها هذا الطول التيّاه؟ لا شكّ أن قطار الغرب الشائخ تاه.”سألنا: قيل لنا الخرطوم، هذه عاصمة القطر على ضفاف النيل تقوم: عربات، أضواء، وعمارات. وحياة الناس سباق تحت السوط.
هذا يبدو كحياة الناس، خيرٌ من نومٍ في الأرياف يُحاكي الموت. ما أتعسها تلك الأرياف، ما أتعس رأساً لا تعنيه تباريح الأقدام.تري هل عاد هذا القطار التائه ليحط رحاله أخيرًا في “چانالا”؟ التي كانت تقع غرب الجبيل، والتي قد كان لها بالفعل بحيرٌ ناءٍ صغير، لكنه بلا نهر. وكان لها قطارٌ يرتجّ يتمطّى على القضبان، يدمدم في إرزام، يسمّى هنا “المشترك”، قطار متنازع عليه، تغنّى له الشاعر الكردفاني ذاته، باعتباره قطارًا للغرب بأسره قائلا : “ها نحن الآن تشبّعنا بهموم الأرض، وتخلخلنا وتعاركنا بقطار الغرب.
إني يا أجدادي، لستُ حزينًا مهما كان، فلقد أبصرتُ رؤوس النبت تصارع تحت الترب، حتماً ستُطلّ بنور الخِصب ونور الحب.”وقال بفراسةٍ رملية، يتمتع بها القابعون وراء التلال والكُثبان:”وقطار الغرب يدمدم في إرزام، تتساقط أغشية الصبر المُترهّل حين يجيء، ألوان الجدة في وديان الصبر تُضيء، والريح الناشط في القيعان يمر، يا ويل الألوية الرخوة، يا ويل الصبر.
“أما الآن، فهل بات ريح الحرب الناشط في القيعان يمر؟. وهل ألوان الجدة في وديان صبر أهل السودان الجديد قد آن لها أن تُضيء؟.رغم أنف المجترين لعلكة التاريخ كالأبقار الكسولة، الذين ظلوا أسري لعقول جامدة موصولة بأوتاد الماضي، يرعون بقيودهم يدورون كثيران الساقية في فلك الأمس.فالتاريخ للحقيقة، ليس هو الماضي، إنما التاريخ هو الأحداث التي لا زالت تؤثر في حاضرنا ومستقبلنا.