مقالات

الجميل الفاضل يكتب من نيالا:”البحير” تحيل “بورتسودان” لكهف صدي، يصدر من منطقة رد الفعل

الجميل الفاضل يكتب من نيالا:
“البحير” تحيل “بورتسودان” لكهف صدي، يصدر من منطقة رد الفعل

بالسبت، بينما كانت الأنظار تتجه بتثاقلٍ إلى واشنطن، حيث يستعد الكبار للبحث عن “حل” من بين خطوط خرائط صفراء بالية، نطقت نيالا.


لا بتصريحٍ مقتضب، ولا ببيانٍ هادئ، بل بإعلانٍ يكاد يكون أقرب إلى زلزال.
“نيالا”، تلك المدينة نونية الحرف والمدي، التي لطالما كانت تُذكر في هوامش الأخبار، صارت “عاجلا” تقطع لأجله البرامج، يحتل أشرطة الأنباء المتحركة علي شاشات التلفزة قبل أن تتصدر هي عناوين الاخبار في كل النشرات وبكافة اللغات.
قال وزير العدل الأسبق نصرالدين عبدالباري باختصار: أن حكومة تحالفه ستشكل كابوسا للإسلاميين ولجيشهم المتغطرس.


علي أية حال، فمن قلب دارفور، في أبعد نقطة عن الخرطوم ناهيك عن بورتسودان، وُلد كيان سياسي جديد، اسمه “تحالف تأسيس”، ورفع الستار عن مجلس رئاسي ستتبعه حكومة عنوانها السلام والوحدة، ودستور، ومشروع بديل، لا يشبه شيئاً مما ألفته البلاد.


بعثت نيالا برسالة مدوّية، ومقصودة، ومُرسلة بعناية، تقول:
“نحن لسنا طرفاً في صراع الخرطوم، بل بديلاً عنه.”
لم يكن توقيت الإعلان مصادفة.


قبل أيام معدودات من اجتماع الرباعية في واشنطن.
ففي اللحظة التي كانت فيها القوى الدولية ترتب أوراقها علي نسق صفقات ترامب، قلبت نيالا الطاولة علي رؤوس الجميع. 
لتجعل من “بورتسودان”، التي كانت تتمنطق بشرعية الدولة الزائفة، مجرد رد فعل متأخر على قرار سياسي نُسج في الظل، ثم خرج للنور بكامل عنفوانه.


واشنطن، وهي تخطط لـ “تسوية كبرى”، وجدت نفسها أمام طرف لم تدعُه إلى الطاولة، لكنه جلس بمفرده على طاولة جديدة تمامًا، وبدأ بإعادة تعريف اللعبة.


فقد قابلت العواصم الغربية الإعلان: بذهولٌ بارد، وكأن أحداً كسر النص الذي اتُفق عليه مسبقًا.
المهم فإن ما يكتبه المعذبون في الأرض، يكون في الغالب أقرب إلى كبد الحقيقة، مما يكتبه المنعمون فيها والمترفون عليها، الذين كثيرا ما تشوش المداراة، والمراوغة، وكثرة الحسابات المعقدة، والإعتبارات المتباينة، والمصالح المتقاطعة.. رؤيتهم، فتعقل بالتالي ألسنتهم، وتعكر صفو فكرهم.


ولذا فإن نيالا التي تتوج اليوم كآخر العواصم في سودان ما بعد الخرطوم، ليست مجرد عاصمة بديلة، بل هي تمثل الآن وعاء تاريخي لوعي مغاير، تجسد في الواقع لحظة قطيعة لا لحظة تسوية.


عموما ففي بورتسودان: ارتباكٌ ظاهر، وصمت طويل، لا شيء يُقال أمام إعلان جاء من خارج النص، لكنه يُعيد كتابة القصة كلها.
وفي عواصم الإقليم: توجس متصاعد، لقد نجحت نيالا في أمر واحد جوهري: أن تُجبر الجميع على النظر إليها بعين تختلف.


فما بعد نيالا، لم تعد بورتسودان تمثل “بديلاً للخرطوم”، بل صارت ظلّاً باهتاً لصوتٍ جاء هذه المرة من دارفور البعيدة.
لم تملك بورتسودان الرد عليه، فأصاب بعضها الهزيان وإختار بعضها الصمت.


بل إن واشنطن نفسها أصبحت في مأزق:
هل تنظر إلى نيالا كاختراق مقلق؟ 
أم كمخرج محتمل من أزمة كانت توشك على التحول إلى انفجار شامل؟
وبالتالي في هذه اللحظة الحرجة، بدت نيالا وكأنها ليست مجرد مدينة، بل نقطة تحوّل في مسار التاريخ السياسي للسودان.


هي ليست جزءاً من نظام قديم، ولا حليفة متمردين، بل بداية لمشروع مختلف… كُتب بلغة أخرى، في مكان آخر، لعالم لا يشبه بالضرورة سيرة الخرطوم.


وهكذا، دخل السودان لحظة مفصلية: 
لحظة لا تملك فيها واشنطن إلا أن تنصت قليلا.
ولحظة لا تملك فيها بورتسودان كصدي لهذا البحر الهائج المتلاطم الأمواج إلا أن تصدر من موقع رد الفعل. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى