مقالات

الجميل الفاضل .. هل يعود السودان غُدَّةَ حبٍ تفرز إنزيمات الوداد؟!

الجميل الفاضل يكتب من نيالا
يوميات “البحير”:
هل يعود السودان غُدَّةَ حبٍ تفرز إنزيمات الوداد؟!

عما قليل، ريثما تضع هذه الحرب أوزارها، ستفتح الزهرة أكمامها، وتلد الوردة بستانها، ليعود السودان، أرضًا وشعبًا، إلى سودانيته الأولى، أكثر بريقًا وأشد لمعانًا، ربما بأبهى مما كان عليه في الماضي. 
عما قليل، سيعود المستَعبَدون وأشباههم أحرارًا كما ولدتهم أمهاتهم. 
عما قليل، سيكسر هذا الشعب الأسير أغلاله، لتغزو هوامشه قلب الدائرة. 
عما قليل، سيخرج هذا المارد المحاصر من قمقمه، ويحلق فوق رماد الذاكرة. 
عما قليل، ستغدو الوجوه الغريبة أليفة كما كانت في كل مكان. 
عما قليل، سنشبه أنفسنا، كي نشبه بعضنا بعضًا، بعيدًا عن ضلال اللون، وزيف اللهجة، وسراب الآصرة.
هكذا هي الودائع، مطويّة دومًا في الخلائق ذاتها، إلى حين مجيء أوقاتها. 
لا تتقدم عنها قيد أنملة، ولا تتأخر متى آن أوانها.
في ظني أن الحالة السودانية ستعود، لا محالة، كما كانت أبد الدهر؛ إذ هي، في الواقع، حالة خاصة جدًّا، تعتري الناس والخلق حينما تحل، بلا مقدمات أو استئذان، ودون قيد أو شرط. 
عمومًا، فإن الذات السودانية، قبل أن تُعكّر صفوها هذه الحرب اللعينة، كانت أقرب دائمًا بنداوتها وطلاوتها، وسهولتها وسلاستها، إلى السيولة والإندياح، لا تعرف حدودًا جامدة تقف عندها، ولا فواصل صارمة تقطع حبال ودّها الطليقة الممتدة إلى كافة الجهات والناس.
انظر كيف وصف القائم بأعمال السفير الأمريكي السابق بالخرطوم، السفير جوزيف ستانفورد، الشعب السوداني بأنه من أكثر شعوب الأرض وُدًّا. 
على أية حال، فقد ظل الانتماء في السودان — أو له — هو الانتماء الوحيد الذي لا يُقاس بمدة إقامة، طالت أو قصرت، ولا بوثائق أو هويات. 
فلكل زائر، أو عابر، أو مقيم، ضالة ما، لا بد أن يجد شيئًا منها، على الأقل، في فسيفساء هذا الوطن المتنوع والمدهش.
تأمل كيف صوّر الشاعر الراحل نزار قباني هذا الإنسان من زاوية اهتمامه الخاص، قائلاً: 
“مفاجأة المفاجآت لي كانت الإنسان السوداني، الإنسان في السودان حادثة شعرية فريدة لا تتكرر، ظاهرة غير طبيعية، خارقة من الخوارق التي تحدث كل عشرة آلاف سنة مرة واحدة. 
الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي الباقي لتراثنا الشعري، هو الولد الشاطر الذي لا يزال يحتفظ دون سائر الإخوة بمصباح الشعر في غرفة نومه. 
كل سوداني عرفته كان شاعرًا أو راوية شعر؛ ففي السودان إما أن تكون شاعرًا أو أن تكون عاطلًا عن العمل. 
فالشعر في السودان هو جواز السفر الذي يسمح لك بدخول المجتمع، ويمنحك الجنسية السودانية.”
فالسودان، يا سبحان الله، قبل اشتعال هذه الحرب والكراهية في نفوس ناسه، كان غُدَّةَ حب، أو ودًا كبيرًا عامرًا، كما قال الأمريكي ستانفورد، أو كما وصفه نزار قباني بقوله: 
“الحب السوداني ليس جديدًا عليّ، فهو يشتعل كالشطة الحمراء على ضفاف فمي، 
ويتساقط كثمار المانغو على بوابة قلبي، 
ويسافر كرمحٍ أفريقي بين عنقي وخاصرتي. 
هذا الحب السوداني لا أناقشه، ولا أحتج عليه، لأنه صار أكبر من احتجاجي، وأكبر مني. 
صار وشمًا على غلاف القلب لا يُغسَل ولا يُمسَح.”
فما لا يُغسل ولا يُمسَح، من وشمٍ التصق بقلب نزار، يجعلني الآن أقول بيقين، كما قال متصوفتنا الأوائل: 
“الما عندو محبة، ما عندو من سودانيته الحَبّة.”
عموما سيعود السودان لا كمن يخطو إلى الوراء، بل كمن ينهض من الرماد، كعنقاءٍ مغرب في إشارات عميقة.
يغسل جناحيه في النهر، يحدق نحو الشمس بلا خوف.
سيعود كما تعود القصائد إلى شفاه الشعراء، مبللةً بالمطر، مشتعلةً بالنار، شاهدةً على البعث من الألم.
فالسودان، ليس مجرد بقعة على الخريطة، بل وعدٌ قديم، محفور في الصدور، هو أمانة في ضمير الزمن، لا تُنسى، ولا تُهزم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى