مقالات

قراءة في لقاء دونالد ترامب ومحمد بن سلمان

محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)

●اثارت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول السودان ابان لقائه بالأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية الذي زار أمريكا في إطار المباحثات والتفاهمات بين البلدين، وتوقيع عدداً من الإتفاقيات بينهما ، أثارت ردود أفعال متباينة وسط الأطراف السودانية المختلفة، فمنهم رحب بها فوراً ومنهم من رحب بها بتحفظ وآخرين تريثوا وآثروا الصمت.

●اللافت هو الترحيب السريع الذي صدر من عبد الفتاح البرهان ومن خلفه منسوبي الحركة الإسلامية الذين اشعلوا الحرب ورفضوا كافة الوساطات والجهود الإقليمية والدولية بما فيها الرباعية الدولية، حيث كانوا أكثر فرحاً وتسابقاً للتهنئة بهذا (الإنجاز) وبالأمس القريب كانوا يرددون لا هدنة ولا تفاوض والحسم بالسلاح أو إستسلام الخصم.

●أعتقد إنهم فهموا أن الرئيس الأمريكي قد تبني رؤيتهم للحرب والصراع في السودان وكيفية إنهائها، وأن الأمير محمد بن سلمان هو مبعوثهم لدي السلطات الأمريكية ، وفي القربب رفضوا مبادرته في منبر جدة التي كانت كفيلة بوقف الحرب في أسابيعها الأولي قبل حريق السودان…!!

●لا شك أن الجهود التي تقوم بها المملكة العربية السعودية وكافة الفاعلين الآفليميين والدوليين من أجل وقف وإنهاء الحرب في السودان تجد الدعم والتأييد من معظم السودانيين الذين يحرصون على وحدة وسلامة بلادهم وشعوبهم ، فكل سوداني مهموم بقضايا وطنه يريد وقف القتل والدمار اليوم قبل الغد، ولكن السؤال الجوهري كيف يتم وقف الحرب، وما هي الطرق والآليات التي تقود لوقفها؟، وهل وقف الحرب الذي تقصده جماعة بورتسودان هو إعادة إنتاج النظام البائد والأساليب القديمة المجربة أم عبر مخاطبة جذور الأزمة التأريخية وبناء دولةمواطنةمتساوية بين جميع السودانيين؟
وهل وقف الحرب يعني العودة إلى ما قبل اندلاعها في يوم 15 أبريل 2023م وإعادة تقاسم المنهوب بين العسكر والمدنيين أم عبر تحقيق ما نادت به ثورة ديسمبر المجيدة 2019م وسابقاتها من ثورات سلمية ومسلحة ، بخروج كافة التشكيلات العسكرية من المشهد السياسي والإقتصادي، والتوافق على حكومة إنتقالية مدنية بالكامل ، وبناء جيش قومي واحد بعقيدة جديدة، وتصفية وجود الإسلاميين في كافة مؤسسات الدولة لا سيما الخدمة المدنية والشرطة والأمن وإعادة هيكلتها بما يحقق قوميتها؟!.

إن تصريحات دونالد ترامب لا يعتد بها كثيراً، وهو سمسار يبحث عن أموال وصفقات استثمارية ، وحاله كحال شعراء بلاط السلاطين يمدحون من أجل العطايا والهبات ، وما قاله أمام الأمير السعودى، سيقول غيره إذا زاره الشيخ محمد بن زايد أو الشيخ تميم بن حمد أو غيرهما من زعماء الدول الذين يعتبرهم ترامب مصدراً من مصادر الدخل للخزانة الأمريكية وإقتصادها الذي أثقلته الديون.

●لا يمكنني تصديق ما اعتقده البعض أن ترامب يجهل الأزمة في السودان، وأن محمد بن سلمان هو من ساعده في فهمها ، وأنه سيتحرك بناءًا على نصيحة ولي العهد السعودي، فهل الرباعية الدولية التي تتزعمها أمريكا من بنات أفكار المستشار مسعد بولس ولا يعلم عنها الرئيس ترامب شيئاً أم أن مهمة الرباعية كانت لحل مشكلة ثقب الأوزون وليست دولة اسمها السودان؟!.

●يبدو أن الرئيس ترامب قد بالغ فيما قاله ليس جهلاً بحقيقة الأزمة والأوضاع في السودان التي سارت بها الركبان، ولكني أعتقد إنه يريد التودد وإحتيال الضيف (الثرى جداً)، وهو كمن يبيع السمك للآخرين وهو لا يزال داخل مياه البحر!.

●إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية تدار عبر نظام (سيستم) وليس عبر الأفراد وإن كان رئيس الدولة، ونظامهم هذا لا يتأثر كثيراً بماهية الرئيس أو الحزب الحاكم بقدر ما تكون هنالك إختلاف في الأولويات ووسائل تحقيقها بين الجمهوريين والديمقراطيين بناءًا على سياسات الحزب وخططه ، ولكن تظل المعادلة الكلية للسياسة الخارجية ثابتة بتعاقب الرؤساء والحكومات ، وهي المصلحة الأمريكية أولاً.

●من المشين والمخجل أن دولة كالسودان ذات جذور ضاربة في أعماق التاريخ ، عندما شادت حضارات وممالك وانماط حكم لم يكن العالم هناك دولة اسمها أمريكا أو حتي ما يسمي بالمجتمع الدولي، صارت تتسول حلول مشاكلها عند الآخرين، الذين يفرضون عليها الجلوس والتفاوض حول كيف تحل أزماتها..!!.

●إن علاقة الهوية وعلاقة الدين بالدولة من جذور أزمتنا الوطنية ، ولا حلول دون الإجابة بشجاعة على هذه الأسئلة التي كانت سبباً في الحروب وعدم الإستقرار السياسي، فالكثيرون يجهلون أن الملك أركاماني – كو هو المؤسس لدولة المواطنة المتساوية، وهو أول من قام في العالم القديم بفصل الدين عن الدولة وليست الدول الغربية (الكافرة) كما يتوهم دعاة الأحادية الدينية والثقافية في وطن متعدد ومتنوع.

●من حق السودانيون أن يفرحوا بأي جهود تقود إلى حل الأزمة الوطنية ووقف الحرب، ولكن عليهم أن يدركوا بأن الحل عند أنفسهم إذا توفرت الإرادة الحقيقية وصدقت النوايا الوطنية ، وتنازلوا عن الأنا والإنتصار للذات والحزب والجهة ، فلا يستطيع كائناً من كان فرض معادلة سلام في السودان بالقوة إذا لم تكن هنالك قناعة بها وبنتائجها من الأطراف السودانية نفسها ، ودوننا كل الآتفاقيات التي فشلت لسبيين اثنين، لقصورها وعجزها عن مخاطبة الأزمة بشكل صحيح، وغياب الإرادة في تنفيذ ما تم الإتفاق عليه.

●إن السودان ليس جزيرة معزولة عن العالم، ومن حق دول الإقليم والعالم التدخل في أزماتنا طالما فشلنا في حلحلة مشاكلنا التي تهدد أمنهم ومصالحهم ،وباتت أزماتنا مهدداً للدول من حولنا.

●الخلاصة:
إن ما قاله الرئيس دونالد ترامب من تصريحات إحتفالية في سوق المصالح الدولية، لا يعدو في اعتقادي أن يكون قول قلاجي (بائع مواشي) في معرض المشتري لتحسين صورة ماشيته لإقناعه بدفع المبلغ الذي يريده منه ، فالعبرة في تفاصيل وما بعد هذه التصريحات، فالكلام ليس عليه رسوم أو ضرائب…!!.

●هل هذه التصريحات تعني دفن جهود الرباعية أم إحياءًا ودفعاً لها؟ وهل ستكون تحركاته التي قال انه بدأها بناءًا على ما جاء في بيان الرباعية أم البدء من جديد وبرؤية جديدة؟، لا سيما وأن بيان الرباعية قد وجد قبولاً وتأييداً من كافة الأطياف السودانية عدا التيارات الإسلامية في بورتسودان وتركيا والمتحالفون معهم من دعاة استمرار الحرب.

●إن المملكة العربية السعودية أحد دول الرباعية، وليست لها مصلحة آنية أو مستقبلية في اعادة إنتاج النظام السياسي القديم وتوجهاته الإسلامية التي يسعى الأمير محمد بن سلمان إلى كبح جماحها في بلاده التي كانت مركزاً للإسلامي السني السلفي المتزمت، الذي فرّخ التطرف والإرهاب الإسلامي الذي رعاه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، لا سيما فرعه في السودان الذي كان يدعمهم ويأويهم ويمولهم وأحياناً يبيعهم للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية لتحسين صورته كمتعاون في محاربة الإرهاب.

● لابد من التفريق بين مخاوف المملكة العربية السعودية المشروعة من تأثيرات الحرب في السودان على مصالحها السياسية والإقتصادية في البحر الأحمر، وبين العمل على إعادة وقف الحرب بالطرق السلمية وضمان عدم عودة النظام البائد الذي يعلم السعوديون مخاطره وخطورته على بلادهم والمنطقة بأسرها، وهو لا يقل خطورة من استمرار الحرب ، ولا أتصور أن السعودية ستصنع لنفسها حوثيون جدد في الضفة الغربية من البحر الأحمر يصعب التعامل معهم مستقبلاً، وكذلك الجارة بالنسبة للجارة مصر التي تعلم الكثير من حقائق الأزمة السودانية وخطر الإسلاميين عليها وليس على السودان وحسب ، فكلاهما البلدين يعملان من أجل الموازنة بين وقف الحرب والمحافظة على مصالحهما في السودان وبين عدم عودة نظام الإخوان المسلمين الذي يعتبر خميرة عكننة وحالة عدم استقرار في المنطقة كلها.

20 نوفمبر 2025م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى