مقالات

الاديب شقيفة يكتب .. في مدارج النقاش .. من الاتفاق إلى النزاع

حين يبدأ الإنسان نقاشًا، فهو لا يخوض مجرد تبادل كلمات، بل يدخل إلى مسار متعدد الطبقات، له بدايات ناعمة، وقد ينتهي بمسافات حادة من التنافر. وكلما تدرّجنا في هذا المسار، نكتشف كيف تتفاعل العقول، وكيف تنكشف طبيعة الوعي بين الأطراف، لتتجلى في النهاية ملامح الثقافة، أو شوائب التعصب. في هذا المقال، نقف على أربع مراحل رئيسية يمر بها النقاش، من التقاء الفكرة إلى اصطدامها.


المرحلة الأولى: الاتفاق – أرض البداية

في هذه النقطة يقف المتحاورون على أرضية مشتركة. إنها “نقطة الاتفاق”، حيث تتشكل الحقيقة البديهية التي لا يُجادل فيها أحد. قد تكون هذه النقطة مفهوماً إنسانيًا عامًا، أو قاعدة منطقية، أو حتى مشتركًا ثقافيًا. وهي ضرورية لبدء أي حوار، إذ بدونها لن يُبنى أي جسر للتواصل. فالاتفاق هو الشرارة الأولى التي تمنح النقاش شرعيته وتُبقيه في دائرة الاحترام.


المرحلة الثانية: الحوار – المثلث المتوازن


الحوار ليس نقاشًا عابرًا، بل هو تمرين على الفهم وتوسيع المدارك. يشبه في بنيته شكل مثلث، تلتقي فيه وجهتا النظر عند قمة واحدة: “رغبة الوصول إلى الحقيقة”. وهنا تتحول الكلمات إلى أدوات بناء، لا هدم. يُصغي كل طرف للآخر، ويحدث تبادل في وجهات النظر، دون سعي حاد للانتصار، بل للاتساع المشترك. الحوار هو ذروة الوعي والنضج الفكري، حيث تتلاقى العقول لا لتتصادم، بل لتتكامل.


المرحلة الثالثة: الجدل – التوازي العقيم

إذا ما طغى التمسك بالفكرة على الانفتاح نحو الرأي الآخر، يتحول الحوار إلى جدل. الجدل هو اصطدام بين خطين متوازيين، لا يلتقيان. كل طرف متمترس خلف قناع “الصواب المطلق”، وتبدأ عملية الدفاع لا عن الرأي، بل عن “الذات”. في هذه المرحلة، يبدأ العقل المؤدلج أو الملقن في الظهور، حيث تُختزل الفكرة في إطار مقدّس، ويضيع النقاش في هوة التكرار والمكابرة. الجدل يسحب النقاش من مساحة التفكير إلى فخ الإصرار.


المرحلة الرابعة: النزاع – تفكك الدائرة

حين يتشظى الجدل وتُفقد القدرة على الاستماع، يولد النزاع. هنا لا يسعى أحد للوصول إلى الحقيقة، بل للانتصار على الآخر. وتتحول الكلمات إلى سهام، والحجج إلى جدران. النزاع هو لحظة تمزق، فيها يتباعد الخطان كما لو كانا على طرفي نقيض من مثلث مقلوب، كلما اشتد النقاش، اتسعت الهوة. ويعكس هذا غالبًا خللًا في بنية الوعي، حين يطغى التعصب، وتختفي المرونة، ويصبح النقاش ساحة معركة لا طاولة تفكير.


في الختام: الوعي هو الحَكم


ما يُحدد مصير النقاش ليس الموضوع، بل طبيعة العقل الذي يخوضه. بين عقل متعلم يطلب الدليل، وآخر مؤدلج يرفض التغيير، تتباين النهايات. فالعقل الواعي المتحرر لا يخشى المراجعة، ويرى في الخلاف فرصة للنضج لا للخصام. أما المتعصب، فيحول كل نقاش إلى خصومة شخصية.

لذلك، فإن النهوض بثقافة الحوار يبدأ من تحرير العقول، لا من ضبط الأصوات. فكلما ارتفع وعي الإنسان، كان أكثر قدرة على تحويل النزاع إلى حوار، والاختلاف إلى معرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى